إن الإسلام من حيث كونه نظام حياة متكاملا، يريد للحياة أن تسير وفق رؤيته القائمة على أساس الإيمان بالله والإيمان بالمعاد، وهو ما شكل انقلابا على قيم المجتمع الجاهلي، ولهذا رأينا كيف طرح رؤاه التصحيحية ومفاهيمه الأخلاقية وقوانينه التشريعية بشكل مرحلي متدرج، كي لا يشعر الناس المعتادون على الأفكار والسلوكات الأخرى بصدمة الدين الجديد، الأمر الذي قد يجعلهم يرفضونه، لأنهم قد يشعرون بثقله وصعوبة ملاءمته لهم. ولذلك كان التدرج في الدعوة وتبليغ الأحكام الشرعية صفة ملازمة لغالبية القوانين الإسلامية في قضايا الأسرة وغيرها من القضايا الاجتماعية، أو ما يرتبط ببعض الأمور، كالمحرمات التي حرص الإسلام على إنزال حكمها بشكل متدرج، كما في قضية الخمر، إذ إن من المعروف أن تحريمها تم على مراحل... إلى أن نزلت الآية الكريمة: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" "المائدة: 90". إن ما نستنتجه من ذلك، أن الإسلام يتميز بمرونة وخصوصا في الجانب التشريعي، كما في الجانب التبليغي، تجعل من اللازم على الدعاة والمبلغين، مراعاة المرحلية في عملهم الدعوي والتبليغي، وخصوصا عندما يكون الإسلام - في مفاهيمه وأحكامه وعقائده - في غربة عن الواقع الثقافي والاجتماعي للناس، ليتحركوا على ضوء القاعدة النبوية الشريفة: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، أو قوله "ص": "بشروا ولا تنفروا"، فإن الكثيرين ينفرون عن الدين، إذ يريدون الدعوة إليه والتبشير به من خلال طروحاتهم التي لا تتحملها الذهنية العامة، ومن خلال استعجالهم في الوصول إلى نتائج سريعة وحاسمة. إن هذا الأمر يفرض على علماء المسلمين العمل على ترتيب الأولويات في الأمور الفكرية والدعوية والسياسية، حتى لا ننشغل بالهوامش عن المتون، ولا بالتفاصيل عن الأصول، ولا بالجزئيات عن الكليات، فإن واحدة من أخطر مشكلاتنا، هي اختلال سلم الأولويات لدينا، ما يجعل الكثيرين في واقعنا الإسلامي يستغرقون في النوافل، ويدخلون الأمة في صراعات جانبية وقضايا فكرية هي من فضول الكلام، لا تسمن ولا تغني من جوع. لذلك، فإن علينا العمل على تهيئة الذهنية العامة لتقبل الحلول العامة للمشكلات، وإفساح المجال للإسلام كي يتحرك بطريقة واقعية، حتى لا يصار إلى معالجة القضايا على أساس الطفرة، أو من خلال الاستعجال أو الاستغراق في القضايا الجزئية على حساب القضايا الكلية، لأن التسرع في الوصول إلى النتائج، قد يقود إلى الفشل أو إلى الفوضى التي تنعكس بدورها فشلا في خط الانتظام العام للناس وللأمة. إن مشكلتنا مع الكثيرين ممن سلكوا طرق الاستعجال في الحركة السياسية أو الثقافية أو ما إلى ذلك، أنهم لم يتوخوا الحذر في مسيرتهم، ومن هنا جاءت النتائج معكوسة ومدمرة، إذ إنهم عملوا وفق ذهنية "سلق" المراحل، أو حرقها، الأمر الذي أفقدهم التوازن في حركة السير نحو الهدف، فغرقوا في التفاصيل ودفعت الأمة ثمن ذلك، إذ إن دوائر الاستكبار العالمي والإعلام المعادي والموجه، حاولوا إسقاط فشلهم وضعفهم وانكفائهم على الإسلام نفسه. لقد كنت أتحدث مع كل الحريصين على تقديم الإسلام نموذجا حضاريا في ساحة التحديات، بأن علينا ألا نستعجل الوصول إلى النتائج في العملية السياسية والفكرية، حتى لا يأتي الاندفاع نحو الهدف على حساب التأسيس والبناء وفق القواعد المتينة، لأن العمل في هذا الجانب، يشبه إلى حد كبير عملية النمو الإنساني، بحيث ينطلق الإنسان جنينا، ثم يقطع مراحل الطفولة والمراهقة والشباب، وصولا إلى مرحلة النضج الفعلي، وإلا فإن القفزة السريعة قد تمثل عملية سقوط في متاهات المجهول، هذا مع إيماننا العميق بأنه ليس هناك من أحد يستطيع أن يقفل عليك الأبواب في المسير نحو المستقبل إذا لم تقفل أنت الباب على نفسك. وهكذا هو الأمر في العملية السياسية والثقافية والدينية وغيرها، إذ إنك إذا لم تلغ نفسك، فلن يستطيع أحد أن يلغيك. ولذلك، فنحن في الوقت الذي قد نحترم دوافع الكثيرين في مسألة الطرح الإسلامي، إلا أننا نعتقد بأن هناك من أجرم بحق الإسلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عندما اعتقد بأنه يمكن اختصار المسافات في تحقيق نجاحات باهرة في هذه القضية، من خلال استخدام أساليب العنف، مع أن هذه الأساليب بمعظمها لم تنطلق من أصالة في ما هي الينابيع الإسلامية الصافية في هذا السياق أو ذاك، بل انطلقت من موقع التأثر بالتجارب الأخرى المعقدة، كالتجربة الماركسية وغيرها، مع الإقرار بأن حالات السقوط جاءت من خلال الاستدراج المرسوم، إذ وقع هؤلاء في ردات الفعل أمام عنف الآخر أو فعله، ولكن النتيجة أنهم وقعوا في الفخ الذي نصب لهم وللأمة من حولهم، أو في المكمن الاستكباري أو الصهيوني الذي حاول ولايزال يحاول الجزم بأن الإسلام يختزن الإرهاب وإلغاء الآخر أو نفيه واستبعاده وإقصاءه، لمجرد الاختلاف معه في وجهات النظر. لذلك، نحن نحذر الكثيرين في هذه المرحلة، من المعنيين على المستوى السياسي الرسمي أو غير الرسمي، في لبنان وخارجه، وندعوهم إلى الاتعاظ بالتجارب الماضية، وعدم الاستعجال في معالجة القضايا المعقدة والبالغة الحساسية، وخصوصا في هذه المرحلة، لأن بعض الكلمات التي قد تختزن عنف الموقف، بعيدا عن دراسة الظرف وخصوصية المرحلة، قد تقودنا إلى العنف الميداني الذي مازلنا نعتقد بأن اللبنانيين هم أكبر من أن يسقطوا أمام تجاربه الجديدة ليكتووا بنيرانها، كما اكتووا بنيران الحرب ونتائجها المدمرة على مختلف الصعد. إننا نريد للجميع أن يتلمسوا الطرق الموضوعية في الحوار الداخلي، ليؤسسوا لمرحلة التفاهم على المستقبل الذي يقبل عليه البلد، حتى لا نسقط مجددا كضحية من ضحايا الخلل الحاصل في العلاقات الدولية والإقليمية، وحتى لا نكون مجددا الحطب الذي يحترق ليعطي الدفء لأصحاب المشروعات المعادية للأمة من دوائر استكبارية غربية، أو من متورطين في العمل لحساب هؤلاء، سواء كانوا من جنودها المباشرين، أو المجانيين
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ