العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ

الدين لا يخضع للأمزجة... والجواز لا يعني الإلزام

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

الكاتب المحترم شوقي العلوي كان صريحا حين اعترف في مقدمة مقاله في "الوسط" بأنه لا يفهم شيئا في الفقه الإسلامي، والمفترض من أي إنسان لا يفقه شيئا في أمر ما، أن ينأى بنفسه عنه، أو يعود إلى أهل الخبرة فيه، فليس من المقبول أن الافتاء بغير علم. وفي الحقيقة لا يكاد يخلو سطر من المقال من الحاجة إلى رد، فمن الواضح أن الكاتب لم يكن متابعا جيدا للحدث وتفاصيله. والغريب أنه مع اعترافه في مقاله بجهله بأمور الدين، إلا أنه كان مفعما بالتحامل والغضب على التيار المتحفظ على التقنين من دون ضمانات. وعندما يذهب إلى القول إن الساحة "الشيعية" مستمرة في الغليان، فلماذا لا يسأل نفسه عن السبب، فهل تم حلحلة أي من الملفات العالقة، كالتمييز والبطالة والإسكان والتجنيس... وغيرها من ملفات لها بعد يتعلق بالتمييز الطائفي، في ساحة تعج بآلاف العاطلين عن العمل، وآلاف الأسر بلا مأوى يليق بالبشر. لست متأكدا إن كان الكاتب يدرك جيدا مدى أهمية مسائل "الأحوال الشخصية"، فأحكام الأسرة تتعلق بالهوية، وقد يفيد التذكير بأننا لا نعيش في دولة علمانية، فدين المملكة الإسلام والشريعة مصدر رئيسي للتشريع - كما في المادة "2" غير القابلة للتعديل من الدستور - وهذا يعني احترام أهل المذاهب المختلفة في خصوصياتهم الدينية، كما أوصى ديننا الحنيف. ومن غريب ما جاء به الكاتب، قوله إن التأخير في الفصل في قضايا المحاكم الشرعية يتعلق بانتظارهم الفتوى من قبل المرجعية في النجف أو قم، وهو كلام عجيب، فالرسالة العملية تحتوي من التفاصيل أكثر من ورقة مسقط ذاتها، فهذه الوثيقة اشتملت على "279 مادة"، بينما تشتمل الرسائل العملية على 900 مسألة تعالج أحكام الأسرة بالتفصيل، فمن أين للكاتب القول إن القضاة لا توجد لديهم نصوص يستندون عليها؟وكأن الرسائل الفقهية للفقهاء خالية من ذلك. وأخال أن ما وقع الكاتب فيه من أخطاء، لا يخرج عن كونه مجرد دعاية إعلامية ضد الطرف الآخر، خصوصا عندما يسوق لنا أمثلة تهدف إلى إثارة العواطف فقط، فمثلا، يذكر قصة صبية في الثالثة عشرة تم تزويجها في الستينات من قبل زوج أمها بمبلغ لأحد التجار، والسؤال: هل القانون له قدرة ذاتية على منع من ينوي خرقه فيمنع مثل هذه الزيجة؟ ولو صحت رواية الكاتب، فالزواج في هذه الحال باطل شرعا، إذ لا ولاية لزوج أمها على تزويجها، أم ترى الكاتب لا يدري من هم الأولياء الشرعيون في حال وفاة الأب حتى يسوق هذه القصة وكأن التقنين سيحل مثل هذه الحالات الشاذة؟ الكاتب وهو يستنكر على الإسلام إجازته تزويج من بلغت سن التاسعة فما فوق، ليته يقترح سنا أدنى لتزويج البنت والحكمة وراء تفضيله سنا معينة، فهل نأخذ بالقانون الذي يحدد سن الزواج للفتاة بـ "إكمال الثامنة عشرة" كما في المادة "7" من قانون الأحوال الشخصية العراقي "السابق" أو عمر السابعة عشرة "مادة 16 من القانون السوري" أو الثالثة عشرة كما في المادة "18" من القانون نفسه، ولكن بإذن القاضي؟ وهل التقنين هو الترياق السحري الذي سيحل مشكلات الأسرة، في حين لو تفحصنا ما يطرحه دعاة التقنين لوجدنا أن أكثر المشكلات ناتجة عن نقص في القضاة المؤهلين، وضعف في النزاهة، وعدم وجود جهاز مراقبة ومحاسبة للقضاة. ومادام كذلك، ماذا سينفع القانون إذا لم يتغير وضع المحاكم والجهاز القضائي في المحاكم الشرعية، خصوصا أن الكثير من مواد القانون المقترح تجعل للقاضي سلطة الحكم بتقديره للأمور من نفقة وإذن بالزواج. إذا، كم سينفع تقنين الأحكام الأسرية من دون إصلاح القضاء؟ ومادامت أكثر المشكلات بسبب القضاة أنفسهم، فلماذا لا تتركز الحملة على إصلاح القضاء أولا؟ ويردد الكاتب دعاوى بعض الجهات التي تزعم بأن الذين خرجوا في مسيرة الأربعاء لا يعرفون شيئا عن القانون، ولكننا نجد أن السؤال موجه أكثر إلى دعاة التقنين بلا ضوابط، فإذا كان هؤلاء يجهلون القانون ويعترضون عليه لمجرد الاستجابة لعلماء الدين، فلماذا يراد فرض قانون عليهم هم مازالوا يجهلونه؟ ويلجأ الكاتب لاقتباسات من فتاوى مطروحة بكثرة من أجل الجدل في مواقع الانترنت على أيدي أصحاب الفتنة الطائفية، ولعل من الغريب جدا طرح فتوى الإمام الخميني بالذات، بينما كبار فقهاء المذاهب الأخرى يذهبون لأكثر من المثال الافتراضي في هذه الفتوى. وما يؤسف له أن الكاتب طرح مثل هذه الفتوى بأسلوب اجتزائي، ونستغرب لماذا اختار فتوى بها من التفاصيل ما شذ طرحه من بين عشرات من كتب ورسائل الفقهاء. المعروف أن الفقهاء يجيبون على أسئلة مفترضة أو يقدمون على مسائل لا تطرأ على بال، فربما تجد من الفقهاء القدامى من تكلم فيما يتعلق بفريضة الصوم في حكم من يعيش في بلد لا تفارقه الشمس، أو من سافر إلى القمر... إلخ، وكان ذلك في زمن لم يكن أحد يتخيل هذه الافتراضات، والفتوى المشار إليها في سياق الفرض وليس الواقع، فلو جاز تزويج الولي للبنت، فلا يجوز وطؤها ما لم تبلغ التاسعة. مع ذلك فإن الإمام الخميني - بخلاف الكثير من المذاهب الأخرى - لا يجيز تزويج من بلغت سن الرشد من دون رضاها، ولو زوجها قبل البلوغ، فلا يجوز الدخول بها قبل التاسعة، وعندما تبلغ فإن لها حق فسخ العقد وإبطال هذا الزواج. بينما الكثير من المذاهب تجيز التزويج من قبل الولي، ولا خيار لها بعد البلوغ، بل بعض هذه المذاهب تجيز الدخول بها حتى قبل التاسعة، كما لو كانت سمينة مثلا. ولو يعلم الكاتب مواقع الجواز في كتب الفقهاء، لأصابه العجب، ولكن هل يفهم الكاتب أن الجواز يعني الإلزام بالفعل؟ كلا، بل ربما يحرم بالعنوان الثانوي "مصطلح يحتاج من يخوض في هذا المعترك إلى معرفته"، وهذا بالفعل رأي الإمام الخميني، فلا يحق للولي عنده أن يزوج ابنته الصغيرة إلا بعد دراسة مستفيضة، يرى فيها تماما عدم وجود مفسدة تحصل من وراء هذا الزواج... ولكن أي أب سيقدم على مثل هذا العمل؟

بنت الزبير وابن مظعون

وهذه الافتراضات المتعلقة بجواز الزواج من الرضيعة أو زواج الصغير ذي السنتين من البنت الكبيرة، موجودة بكثرة عند غالبية الفقهاء من المذاهب الإسلامية جميعها، فمثلا جاء في الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي "ج7" "مسألة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها هل يجب استبراؤها؟ على وجهين..." إلى أن يقول: "... فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها". وجاء في المبسوط للسرخسي "ج15" "ولكن عرضية الوجود بكون العين منتفعا بها تكفى لانعقاد العقد كما لو تزوج رضيعة صح النكاح...". بل إن بعض أئمة المذاهب ينقل حدوث الزواج من الرضيعة بالفعل، فينقل السرخسي في المبسوط "ج 4" باب نكاح الصغير والصغيرة.: "... قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير "رض" يوم ولدت وقال ان مت فهى خير ورثتي، وان عشت فهى بنت الزبير...". ثم إن للعرف دورا ليجعل من الجائز أمرا مقززا في مجتمع ما، مقبولا في مجتمع آخر، فربما يصاب الكاتب بالدهشة إذا عرف أن الكثير من الفقهاء يرون جواز أن تظهر البنت لمحارمها - كأخيها مثلا - كل شيء ما عدا العورتين، فهل سيقدم أحد في مجتمع كمجتمعنا على هذا الفعل من دون مسوغ؟ ولكن لو أخرجت إحداهن ثديها أمام إخوتها من أجل أن ترضع طفلها، فلن يستنكر أحد ذلك، وهو معتاد لدينا في البحرين، ولكنه قد يكون محل استنكار في البلدان الأخرى. وإظهار البنت كل شيء أمام محارمها ما عدا العورتين، قد لا يقابل بهذا الاستياء في بعض مناطق إفريقيا في حال إسلامهم ممن اعتادوا على ذلك أمام الغرباء فضلا عن المحارم، وكذلك قد لا تستنكره أسرة أوروبية معتادة على ذلك، إذ العرف في أوروبا وصل إلى درجة قبول زواج المثليين على استقباحه لدى النفس الإنسانية. والعرف هو الذي يقرر المصلحة من المفسدة حين التحرك في نطاق الجائز شرعا، فما يجوز لك ربما لا يجوز لي عرفا. ولو أدى فعل الجائز شرعا إلى مفسدة تتعلق بكرامة الشخص أو المجتمع، لتحول هذا الجائز إلى محرم بالعنوان الثانوي. وما يجوز عرفا حاليا قد يستنكره العرف مستقبلا، فقد جاء في المبسوط للسرخسي "ج4": "وبلغنا عن رسول الله "ص" أنه تزوج عائشة "رض" وهي صغيرة بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين"، فهل ذلك مقبول في مجتمعنا حاليا؟ ولكن هل عدم المقبولية عرفا كافية لتحريم ما أجازه الله ورسوله كما يريد الكاتب؟ بل ربما ليس من المقبول لدينا زواج ذات الثالثة عشرة حتى بإذن من القاضي كما في المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية السوري.

فتوى الخميني لم تؤثر بـ "الأحوال" الإيراني

ثم إن منطقة "الجواز" هي منطقة فراغ تشريعي "وهو مصطلح فقهي آخر يجدر بالكاتب معرفته" وهي منطقة تخول الحاكم الشرعي تحريم الجائز أو إيجابه وفقا للظروف، وقد يفيد الكاتب الاطلاع على قانون الأحوال الشخصية الإيراني، حينها لن يجد لفتوى الإمام الخميني أثرا في هذا القانون مع أنه كان زعيم الثورة الإسلامية. وهناك الكثير من الأحكام تحت عنوان الجواز، ولكن النفس الإنسانية لا تستسيغها لعدد من الأسباب قد يكون العرف أحدها، وقد تكون أحكام شاذة عن بقية الفقهاء مما له علاقة بالأحوال الشخصية ما يستدعي الاحتياط تجاهها، منها - على سبيل المثال ما نقله أبو قدامة المقدسي عن تجويز الإمام مالك والشافعي نكاح الرجل بنته من الزنا، وهذا نص قوله: "ويحرم على الرجل نكاح بنته من الزنا وأخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا وهو قول عامة الفقهاء، وقال مالك والشافعي في المشهور من مذهبه يجوز ذلك كله لأنها أجنبية منه...". ولأن أحكام الشرع أصبحت محل "تذوق" لدى البعض، لذا يستنكر الكاتب جواز الزواج بعمة الزوجة وخالتها ويستفتي فيها أذواق أصحابه. والكاتب يورد المسألة بطريقة معكوسة، والصحيح أنه في حال أراد أن يتزوج بنت أخ العمة أو بنت اخت الخالة، فهنا لا يجوز إلا برضا عمتها أو خالتها، ولكن الكاتب وكعادته في الاجتزاء، لم يذكر هذا الشرط، بل طرح المسألة مستنكرا تارة ومستفسرا أخرى. أما فيما يتعلق بجواز وطأ المرأة في الدبر، فرأي الامام الخميني هو الكراهة الشديدة في حال رضا الزوجة،

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً