يكاد يكون من المتفق عليه في دمشق بعد خطاب الرئيس بشار الأسد، وبعد تصريحات قيادات سورية مختلفة، أن سورية في الطريق إلى مواجهة دولية بعد منتصف ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وباستثناء ما قيل، فإن هناك مؤشرات عملية، تؤكد مضي دمشق على طريق المواجهة في ضوء العجز السوري عن التعامل مع مضمون القرار الدولي 1636 الذي أعلنت سورية استعدادها للتعامل معه وقبولها قيام لجنة التحقيق الدولية بالاستماع إلى أي سوري في قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري. كما أن بين المؤشرات العملية لعدم التجاوب السوري الهجوم المكثف الذي تشنه سورية ضد القاضي ديتليف ميليس، ما سيعقِّد علاقتها معه، ويعني في جانب منه المراهنة على تفاعلات وتوترات، تنقل الخلاف في موضوع استجواب الضباط السوريين الستة إلى خلاف بشأن القاضي ميليس، أو بجعل الأمر الأخير بمستوى الأمر الأول، ونقله إلى مجلس الأمن الدولي. وعلى رغم أن الهجوم على القاضي ميليس له بعده الخارجي، فقد كان جزءاً من حملة تعبوية داخلية تتواصل في الداخل السوري على طريق تهيئة البلاد على طريق المواجهة الدولية، وهو أمر واضح في خطاب الرئيس الأسد وفي تصريحات نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية عبدالله الدردري، إضافة إلى الاعتصام قبالة السفارة الأميركية ومسيرات الاحتجاج التي جرت بعد صدور القرار الدولي، والتي تصب جميعها في اتجاه واحد نحو تعزيز الذهاب إلى المواجهة، لأنها من حيث النتائج تعزّز الانقسام، وتبلور جبهتين للصراع، لا يملك السوريون في خلاصتها إلاّ الانحياز إلى بلدهم. وهي سياسة تتأكد من خلال الهجمة السورية المتواصلة ضد تيارات وقيادات لبنانية بينها رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة الذي مال بصورة معلنة كحال كثيرين إلى التهدئة مع سورية وعدم الذهاب في الخلاف والاختلاف إلى الأبعد. وبغض النظر عن التفاصيل والحيثيات، فإن ذهاب سورية إلى المواجهة الدولية، التي يعتقد في دمشق أنها ستتضمن عقوبات وحصاراً دولياً مع مطلع العام، يطرح مسألة القدرات والإمكانات السورية في المعركة المنتظرة، وهو ما ينبغي أن يترجم في أرقام ومعطيات سياسية واقتصادية وربما عسكرية، إذا جرى التفكير في أن استخدام القوة في العقوبات ممكن طبقاً لمحتويات البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة الذي أشير اليه في القرار الدولي .1636 إن الأبرز في المعطيات الدولية والإقليمية المحيطة بسورية ودخولها قوس الأزمة في المواجهة، يشير إلى واقع حصار وعزلة سياسيين دولياً واقليمياً، ولعل المؤشر الأهم في ذلك، أن قرار مجلس الأمن 1636 تم اتخاذه بالإجماع وبحضور وزير الخارجية السوري شخصياً، وثمة مؤشر آخر مهم، تمثله الدعوات المتكررة من دول كثيرة بينها دول عربية وإسلامية وصديقة لسورية، إلى التعاون مع لجنة التحقيق والقاضي ميليس، بل ان بعض تلك الدعوات ترافقت مع ضغوطات اتخذت طابع «النصائح» التي لابد من الاستجابة لها. وعلى رغم أن المعطيات الخارجية مهمة، فإن المعطيات والأرقام الداخلية، تبدو أكثر أهمية في الموضوع. وسورية من حيث المبدأ، ليست دولة كبرى حتى في المستوى الإقليمي عندما تقارن بجوارها القريب مثل العراق، تركيا ومصر، إذ هي دولة لا تزيد مساحتها على 185 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها يقل عن 20 مليوناً، وموارد محدودة، وأنشطة اقتصادية تحتاج جميعها إلى إعادة هيكلة، وهو أمرٌ ينطبق أيضاً على القوى العاملة في الإدارة والإنتاج والخدمات التي تحتاج إلى إعادة تأهيل وتدريب. ويترافق مع ضعف الأرقام والمعطيات وجود مشكلات كبرى تحيط بالحياة السورية، منها مشكلة الفقر، إذ واحد من كل ثلاثة سوريين، يعيش تحت أو في محيط خط الفقر، استناداً إلى دراسة تشاركت فيها الحكومة السورية والأمم المتحدة، وصدرت هذا العام. وهناك مشكلة بطالة مستحكمة تتجاوز طبقاً للمعطيات الرسمية العشرة في المئة من القوة العاملة، وهذا يعني مليون عاطل عن العمل، والتقديرات غير الرسمية تضاعف هذا الرقم في بلد يدخل في عداد قوة عمله سنوياً أكثر من ربع مليون شخص لا توفر الدولة والقطاع الخاص فرص عمل إلا لأقل من نصف الرقم. ولعل بين الأهم في المعطيات السورية واقع اختلال العلاقة بين الدولة التي تجسدها السلطة والمجتمع، وهو ما يمكن ملاحظته في تناقض السياسات والمطالب في السنوات الخمس الماضية، إذ تكررت باستمرار من جانب المجتمع مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية في سياق عملية اصلاحية شاملة، قابلتها السياسة الرسمية بالتجاهل حيناً وبالذهاب إلى معالجات تفصيلية وغير جدية في أحيان أخرى، في ظل غياب أية وعود حقيقية أو أجندة عملية معلنة هدفها معالجة ترديات الواقع، والأمر في هذا الجانب كانت له تأثيرات سياسية مباشرة على حراك المجتمع سياسياً واجتماعياً في مواجهة السلطة، ما عزّز وجذّر حركة المعارضة في الداخل، وجعلها تربط بصورة معلنة الإصلاح والتغيير من جهة وقدرة سورية على مواجهة التحديات الداخلية الخارجية وفق ما ظهر في «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي»، وما تلاه من «إعلانات» ومواقف صدرت في سورية والخارج، أعادت تأكيد التمايز السياسي بين السلطة والمعارضة وخصوصاً في التعاطي مع قوس الأزمة الحالي وذهاب سورية إلى مواجهة دولية. إن ملامح صورة سورية قبل الذهاب إلى المواجهة الدولية، تشير إلى ضعف قدرات سورية في مواجهة مرتقبة مع قدرات غير محدودة في الخندق الآخر، وهو ما يؤشر إلى النتيجة المحتملة، وهي الخسارة المؤكدة، التي ستصيب الشعب والكيان، والتي لاشك أنها ستصيب النظام الذي يراهن على خسارة، لكنها خسارة غير مطلقة
العدد 1175 - الأربعاء 23 نوفمبر 2005م الموافق 21 شوال 1426هـ