فيما مضى لم يكن بإمكان المواطن أن يعبّر عن رأيه في أي شأن محلي أو حتى عربي، فنحن «بحرينيون» فقط، ولكي نكون بحرينيين صالحين علينا أن نحفظ فقط المعادلة الآتية: الرأي هو رأي الحكومة، وما عدا ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. .. نيران الدنيا قبل جحيم الآخرة، اليوم، ومع هذا الهامش من حرية التعبير وحرية التجمع من دون مداهمة قوات الأمن، هناك من يحسدنا على هذا الهامش المعقول، ويتمنى لو تزول عنا هذه النعمة إلى الأبد ليعود إلينا «أمن الدولة»، وليعود العبث بأرواح الناس وحرياتهم من جديد من دون رقيب... هم لا يقولونها بألسنتهم، وإنما يلمحون من بعيد، في لبنان هناك تيار «المستقبل»، أما هنا فلدينا تيار «الماضي»، ولهذا التيار «منظّرون»، وباحثون «أكاديميون»، وله أيضاً متخصّصون في تسويق الأرقام المزيفة، نصبّوا أنفسهم كهنة جدداً، لكن تكشفهم أثواب المعبد القديم، نائبٌ من المفترض أن يمثل مصالح الشعب، يتصرف كواحد من عتاة حزب «الموالاة»، فنراه يتهكم بقوله إن البحرين تحوّلت إلى «بلد المليون مسيرة»؟ أكل هذا كراهيةً للحرية وتمجيداً لعهد الكبت والقمع وتكميم الأفواه؟ ألم يكفِ الوطن ثلاثون عاماً من غياب القانون وقلع الأظافر في عتمة السجون؟ وإذا تابعنا العيّار إلى باب بيته: لماذا تحوّلت البحرين أصلاً إلى بلد المليون مسيرة؟ ثم ما معنى أن الشارع البحريني شهد أكثر من 220 مسيرة في أقل من 10 شهور؟ وهل من الصحيح أن هذا الشعب التوّاق للحياة مثل بقية أمم الأرض، يجهل كيفية استغلال مناخ الحرية والانفتاح والديمقراطية؟ لا شك أن هناك أخطاءً تشوب حركة هذا الشعب، في هذه المرحلة كما في المراحل السابقة، لكن من التجنّي تعميم هذه النظرة القاصرة على هذا الشعب الكادح الصبور. الخلاف بشأن الأرقام لا يمكن حسمه بسهولة طبعاً، لذلك كم كنا نتمنى لو يتصدى بعض طلبة الجامعة المهتمين بالدراسات الاجتماعية لدراسة مثل هذه الوقائع وكشف مدلولات ظاهرة «كثرة المسيرات». ولعلّ مما يسهّل المهمة تصنيف هذه المسيرات أولاً: فإذا استثنينا المسيرات «الخارجية» للتعبير عن موقف هذا الشعب تجاه قضايا أمته في العراق وفلسطين، نرى أن غالبية هذه المسيرات، جاءت للتعبير عن مواقف داخلية، أو توصيل آراء ومطالب لم تجد آذاناً صاغية أو حلولاً لمشكلات معلقة منذ أمد بعيد، وجد أصحابها الأبواب سدّت في وجوههم فلجأوا إلى الشارع للتنفيس. تريدون نماذج؟ لنبدأ بلجنة الدفاع عن ضحايا التعذيب والمعتقلين، هل هناك قضيةٌ أكثر عدالةً من قضيتهم؟ في الدول الأخرى بحثوا عن حلول مرضية للمواطنين الذين نالهم العسف والظلم، فماذا عملت الدولة لهؤلاء؟ وكم مسيرة خرجت لإسماع صوتهم التي ضاعت في البرية؟ هناك العاطلون عن العمل، ألم تشعل قضيتهم فتيل الأزمة العام 1994؟ ألم تظل مشكلتهم في المربع ذاته بعد عشر سنوات؟ وهل يمكن علاج مأساة اجتماعية مؤلمة من هذا القبيل بحبات «البندول»؟ هناك أزمة سكن يكتوي بنارها 44 ألف مواطن، وهي أزمة مرشحة لمزيد من التفجّر مع التطورات الأخيرة في سوق العقار، ما دفع هؤلاء إلى حافة اليأس، فلجأوا إلى التظاهر مرات أمام الوزارة المعنية. لم يكن في الأمر تسلية، وليس هوايةً جميلةً أن يترك المواطن عمله ليقف تحت أشعة الشمس على أبواب الوزارة، إنما هذه نتيجة غير مباشرة لما جرى في بنك الإسكان. وهكذا عليكم بقياس الأمور قبل إطلاق الأكاذيب وتصديقها، وتدبيج المقالات التي تفتقر إلى الصدقية والاحترام. وبالمثل... ينبغي السؤال عن الأرقام التي تروّج هذه الأيام عن «تكاليف» المسيرة، فالرقم الذي ذكرته مصادر أمنية من «أن كلفة التجمع أو المسيرة الواحدة حوالي 10 آلاف دينار»، يبقى موضع شك كبير، وكبير جداً، ويحتاج إلى تدقيق «لجنة الشفافية» أولاً لعلنا نحصل على بعض اليقين عندما تقدّم لنا الرقم الصحيح، خصوصاً مع إقحام كلفة أضرار أخرى من قبيل «الممتلكات والآليات والعلاج الطبي والمستشفيات و حتى سيارات الإسعاف»، نعوذ بالله... مظاهرات سلمية ومسيرات مطلبية... أم حروبٌ كيماويةٌ ونوويةٌ تجري في شوارع المنامة طوال العام،؟ وزارة الداخلية أكدت في بيانها الأخير، حرصها وصيانتها لأية ممارسة ديمقراطية تتم وفقاً للدستور والقانون، وترحيبها بأية مسيرة مخطر عنها وفقاً للقانون، وتذليل جميع العقبات التي تضمن نجاحها، لأنها من المظاهر الإيجابية للحياة السياسية في هذا البلد، ودليل حيوية الشعب، ومظهر من مظاهر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، أما كتّاب «الفتنة» ومروجو الأرقام الزائفة فالظاهر انهم لا يزالون في غيهم يعمهون،
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1174 - الثلثاء 22 نوفمبر 2005م الموافق 20 شوال 1426هـ