تونس: حضرنا قبل أيام انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات، التي استضافتها تونس الخضراء. .. وكما توقعنا فقد تحولت أيام القمة إلى ساحة جديدة للصراع الدولي المحتدم، وخصوصاً فيما يتعلق بالمعلومات التي أصبحت سر التقدم في هذا العصر. فهذه ساحة صراع بين الإنسان والتكنولوجيا، بين العقل البشري والعقل الإلكتروني، صراع بين العلم الحديث والجهل المقيم، بين التقدم والتخلف، بل بين الأغنياء المتقدمين والفقراء المتخلفين، بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، ثم هو صراع بين الولايات المتحدة الأميركية المهيمنة على تكنولوجيا المعلومات والاتصال والإعلام وبين باقي دول العالم الأكثر تخلفاً في هذا المجال الحيوي، إنه إذاً صراع بين الحاضر والمستقبل على كل المستويات وفي كل المجالات. لذلك، لم يكن غريباً أن تضم هذه القمة أضخم تجمع دولي في مكان واحد، يشمل نحو 52 ألف مشارك ما بين ممثلي 371 دولة ومئات من المنظمات الأهلية وغير الحكومية، فضلاً عن جيش من التونسيين الذين تفوقوا حقاً في دقة التنظيم وصرامة الإجراءات الأمنية، ما أضاف إنجازاً إلى رصيد هذه الدولة الشقيقة الصغيرة المساحة المحدودة السكان «نحو 9 ملايين مواطن» الشديدة الطموح. ولكي تستضيف تونس هذه القمة العالمية، فرضت عليها الأمم المتحدة مجموعة من الالتزامات منذ قمة جنيف للمعلومات العام 3002، أهمها اتخاذ إصلاحات سياسية واسعة وخصوصاً فيما يتعلق بإطلاق الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة والرأي والتعبير، وذلك لكي تكون المكان المناسب لانعقاد مثل هذه القمة ذات الأهمية العظمى، وخصوصاً أن العالم الأول «الأوروبي الأميركي» دائماً ما يعتبر أن دول الجنوب، وفي مقدمتها الدول العربية والإفريقية غير مؤهلة لذلك، وأظن أنه على رغم الحضور الرسمي «أكثر من خمسين رئيس دولة وحكومة» والحضور الأهلي المكثف فإن سبعة من الناشطين السياسيين في تونس، لفتوا أنظار الجميع، حين ظلوا طوال أيام القمة في حال إضراب عن الطعام تحت عنوان: «الجوع ولا الخضوع»، وهو عنوان أرادوا به تلخيص الموقف الرسمي التونسي، متهمين إياه بأنه لم يوفر الشروط الرئيسية لانعقاد القمة بإجراء إصلاحات سياسية كما كان متفقاً عليها، وها هي الأحزاب السياسية المعارضة وكثير من الناشطين الحقوقيين والصحافيين المختلفين يبلغون ممثلي العالم أن الأوضاع السياسية في تونس لاتزال على ما هي عليه. كذلك، لم يكن غريباً أن يحتج الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وبعض المنظمات الدولية على هذه الأوضاع، بل هذا ما دفع السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى التصريح علانية بعد حضوره القمة، بأنه ناقش مع الرئيس التونسي قضية التضييق على الحريات وخصوصاً حرية الرأي والتعبير في وقت تستضيف فيه تونس قمة المعلومات التي جوهرها حرية الرأي والتعبير،
والحقيقة أن تونس لم تشذ كثيراً عن الطباع الرسمية العربية، ولم تخالف أعراف قبيلة الأنظمة الحاكمة، وازدواجية المعايير التي تطبقها علينا نحن الشعوب، فهي تتحدث إلى العالم الخارجي بلسان حلو وكلام منمق عن الديمقراطية التي تؤمن بها، وحقوق الإنسان التي تحترمها والحريات التي تصونها ليل نهار لتتمتع بها الشعوب، لكنها حين نأتي إلى حديث الداخل فهي غالباً ما تفعل العكس، اللهم إلا عبر صراخ ميكروفونات الدعاية الفجة، وتلفت في كل اتجاه عربي تجد ما لا يسرك من كبت وقهر سياسي واجتماعي وثقافي، لكن إياك إياك أن تشكو أو تتوجع... فأنت أدرى بالعقاب، ومن سوء حظ هذا السلوك المزدوج، أن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، كسرت أسوار السرية وفضحت أمام الجميع كل ما هو مخبأ، ولم يعد العالم يصدق الدعايات الفجة، لأن الحقائق تتدفق والمعلومات تنساب من كل اتجاه وفي كل اتجاه، بفضل هذه الثورة الغلابة وإمكاناتها التكنولوجية المبهرة، وفي مقدمتها الفضائيات وشبكة الانترنت العملاقة، ومنها إلى الصحف والإذاعات ووسائل الإعلام التقليدية الأخرى التي تتكاثر بسرعة فائقة. وملخص ذلك أن الفرز صار واضحاً للعيان، النظام الديمقراطي معروف، والنظام الدكتاتوري مكشوف، واللعب على الحبال مفضوح. حين نعود إلى صلب جدول أعمال القمة ومداولاتها، نجد أن موضوعين رئيسيين تصدرا الاهتمام، هما أولاً سد الفجوة الرقمية بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب المتخلفة، وثانياً كسر احتكار الولايات المتحدة الأميركية لقيادة «الانترنت» والتحكم فيها من دون شريك أو منافس. والحقيقة أن مناقشات القمة على مدى ثلاثة أيام سبقتها سنتان من التحضير والإعداد، لم توفر عناصر النجاح أمام هذين الموضوعين، مع التقدير الكامل لما أصدرته القمة في ختام أعمالها من أجندة والتزامات قمة تونس. إذ ان سد الفجوة الرقمية التكنولوجية بين المتقدمين الشماليين والمتخلفين الجنوبيين من أمثالنا، دونها الموت، فلا الشمال سيسمح بالتنازل عن تقدمه المتزايد ورفاهيته الخيالية، ولا نحن نستطيع التخلص من فقرنا وجهلنا وفساد نظمنا واستبدادها التي تفضل الجهل على العلم والغيبوبة على الصحوة، وكل ما أسفرت عنه القمة في هذا المجال مجال سد الفجوة هو وعود متكررة بأن تقدم دول الشمال المنح والمساعدات «وليس الالتزامات» إلى الدول الفقيرة، أما موضوع فك الاحتكار الأميركي للانترنت فهذا من سابع المستحيلات، ليس فقط لأن أميركا لم ولن تسمح بفتح هذا الموضوع بجدية، ولكن لأن الآخرين أيضاً، بمن فيهم الأوروبيون واليابانيون المتقدمون مازالوا عاجزين عن فهم اللغز وفك شفرته المعقدة، على رغم أنهم شركاء في استخدام شبكاته والاستفادة من مميزاته والتحكم في بعض مساراته. وفي الموضوعين اللذين طرحا على قمة تونس، نكتشف أن ازدواجية المعايير ظلت هي الحاكمة، فالغرب المتقدم أو «الشمال» الغني يُعيّر الجنوب المتخلف بتخلفه وجهله، ويطالبه باعتناق الحرية مبدأ، حرية القول والفعل والعمل والإيمان وفق القيم «المتحضرة»، لكن هذا الشمال أو الغرب، هو نفسه الذي يحتكر مصادر القوة والعلم والتنمية والمعرفة، وهو الذي يستغل تخلف المتخلفين ليزدادوا فقراً وجهلاً، ويزداد هو ثراء وتقدماً، وآخر الأدلة هو ما شهدته قاعات قمة المعلومات في تونس بندواتها الكثيرة.
وبقدر مسئولية الغرب المتقدم عن تخلفنا «بسبب النهب الاستعماري مثلاً» بقدر مسئوليتنا نحن عما نعانيه ونكابده، واقرأ إن شئت بعضاً من التقارير الثلاثة للتنمية في العالم العربي، تكتشف أن الفجوة ليست فقط «فجوة رقمية وتكنولوجية» كما شاع في قمة المعلومات بتونس، لكنها فجوات عدة، فجوة التنمية، وفجوة الحرية، وفجوة المعرفة، وهي معاً كل متكامل، تسألنا شعوبنا عنها وتحاسبنا عليها، لماذا نحن على هذا القدر من التخلف والجهل والاستبداد، ولماذا خضعنا لها وخنعنا أمامها، قضيتنا الأساسية، ليست فقط كفالة انسياب المعلومات للمواطنين واستخدام الانترنت بحرية في بلادنا، وإلغاء الرقابة الحكومية الخبيثة عليها وهذا هدف مهم للغاية، لكن قضيتنا الأصل والأساس تكمن في شيوع الفقر والبطالة وتدني المستوى الاجتماعي الاقتصادي، وفي الأمية الأبجدية والتكنولوجية، وفي مصادرة الحريات العامة والتحكم في حرية الصحافة والرأي والتعبير، وفي تخلف البرامج التعليمية والإعلامية والثقافية، وفي عبادة الحكام وتقديس كرسي السلطان، وأخيراً في مواجهة الاحتكار الدولي للعلم والمعرفة. فهل نبذل مجهوداً جاداً لمواجهة هذه القضايا المحورية وسد فجواتها الرهيبة، باتباع العلم والعقل، والتنمية والحرية، والعدالة والمساواة... أم نعقد المقارنات، صحيح أن 02 في المئة من سكان العالم يتمتعون بنحو 08 في المئة من ثرواته، وأن 51 في المئة من سكان العالم يسيطرون على 58 في المئة من استخدامات الانترنت مثلاً عنواناً للتقدم والمعرفة... لكن الصحيح أيضاً أن العرب الذين يشكلون 5 في المئة من سكان العالم، لا تصل نسبة مستخدمي الانترنت بينهم إلى نسبة «خمسة من عشرة في الألف» في معظم الدول العربية قد ترتفع إلى 5 في المئة في دولة واحدة أو دولتين على الأكثر، عنواناً لفجوة التخلف والجهل، وهذا يدفعنا إلى سؤال محوري آخر... هو كم ينفق العرب على البحث العلمي الذي هو مفتاح التقدم... إنهم ينفقون 2,0 في المئة من الدخل القومي، وللمقارنة فقط فإن «إسرائيل» تحتل المرتبة الرابعة عالميا بعد اليابان، أميركا وفنلندا في استيعاب منجزات التطور التكنولوجي، وهي الثانية بعد أميركا عالمياً في الإنفاق على الأبحاث العلمية وإنجازها والاستفادة منها ولكم أن تتخيلوا... وتقارنوا، شيء مذهل أن تتجول في قاعات قمة المعلومات بتونس، تستمع إلى المناقشات الساخنة التي إن كان موضوعها علمياً وتكنولوجياً، فإن سياقها العام سياسي وفكري بحت، وشيء بديع أن تزور أجنحة المعرض المصاحب، وقد عرضت به 373 شركة عالمية أحدث منتجاتها الخاصة بالمعلومات والاتصال والإعلام، فترى عجباً بل سحراً يطلق العقل نحو الخيال البعيد، ويطلق الروح نحو الحرية المفتقدة في دواخلنا، حتى في ساحة عالمية كهذه تزدحم بتجارة الحرية والمعرفة. شيء موجع أن تعود آخر النهار بعد طول تجوال بقلب كسير وعقل متعب، حين تضطر إلى أن تعقد المقارنات... أين نحن من هؤلاء، ومتى وكيف ولماذا!
خير الكلام
يقول المتنبي:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل
عما مضى فيها وما يتوق
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1174 - الثلثاء 22 نوفمبر 2005م الموافق 20 شوال 1426هـ