جالعنوان السابق هو عنوان كتاب صدر في العام 1988 بالإنجليزية عن دار نشر بريطانية (لا أعرف إن كان ترجم
بسمارك أم ميكافيللي
يحار الكاتب في توصيف المرحوم حافظ الأسد بين ما إذا كان هو «بسمارك العرب» أم «ميكيافيلي سورية»، ولكنه يعطيه حقه (بعد ثمانية عشر عاماً من الحكم، وقت صدور الكتاب) انه قدم لسورية الاستقرار، عن طريق قراءة جيدة وثاقبة للتطورات الإقليمية الدولية المحيطة. في العام 1992 وكانت سورية قد دخلت التحالف الدولي لتحرير الكويت وأبليت فيها بلاءً حسناً، قابل كاتب هذه السطور في زيارة لدمشق جبران كورية، بعد لقاء مطول مع آخرين بالرئيس نفسه وقتها كان جبران المسئول الصحافي للرئيس الراحل. وفي إشارة إلى حذق معلمه الرئيس حافظ الأسد، قال بشيء ليس بعيداً عن الفخر، لقد توقع الأميركان أنهم سوف «يقُوصوا يطلقوا النار على صدام حسين، وحافظ الأسد معاً في وقت واحد، ففوجئوا أن حافظ الأسد قد وقف خلفهم»، في إشارة إلى الحذق السياسي للرجل الكبير. وقتها لو قرّر حافظ الأسد استفتاء البعث في المشاركة مع الأميركان، لقرّرت له الغالبية، تحت سطوة الايديولوجيا، أن ينضم إلى صدام لا الأميركان، ولكنه لم يفعل. إن كثيراً من الدراسات الموثقة تقول إن مدرسة حافظ الأسد السياسية، كانت حساسة لما يجري في الخارج، وموقف سورية منه كان في الغالب تفرضه الحكمة لا العاطفة: الموقف من الأردن، ومن حرب تحرير الكويت، هو مثال ودليل عملي واحد على تلك الحسابات، وذلك الحذق بعيد النظر، من بين مواقف أخرى كثيرة. صحيح أن الموازين تغيرت دولياً بعد وصول الرئيس بشار إلى الحكم في دمشق، فالكاتب الأميركي فلاينت ليفريت، الذي أصدر أخيراً كتاباً بعنوان «اختبار بشار تحت النار»، وترجم للعربية، يشير ولو من بعيد، إلى أن استرخاء الحساسية للقضايا الخارجية الساخنة، وخصوصاً الدولية، هو أحد المعطيات التي ورثت الأزمة المتفاقمة لدمشق اليوم. والكاتب يوثق هذا الأمر بالإشارة إلى حوادث وقعت ما بين العام ألفين، وألفين وثلاثة، من بينها (الازدياد الهائل في التبادل التجاري بين بغداد ودمشق المحظور دولياً)، ضد القرارات الصريحة لمجلس الأمن. وعدد كبير من الأمثلة التي تقود إلى تأكيد ضعف الحساسية للمتغيرات الدولية. ربما يتذكر القارئ صاحب الأرشيف المعقول، أن رئيس وزراء سورية السابق مصطفى ميرو في زيارة لصدام حسين تحت الحصار، أهداه من بين الكثير مما يمكن أن يهدى «سيفاً مذهباً»، واضح أن الحساسية السياسية للمؤثرات الخارجية لسبب أو لآخر قللت من درجة الالتزام بها في ترمومتر دمشق السياسي في السنوات الأخيرة بصيرة مفقودة، شابها شيء من الفساد المالي الملحوظ والموثق أيضاً. وعند قراءة الصحف السورية اليوم (يمكن الاطلاع على بعضها من خلال الإنترنت) يرى المتابع أنها تمعن في القراءة المغلوطة وتزيد على الضبابية السياسية ضباباً إعلامياً. فهي تشير إلى حضور مندوبين على مستوى عال من كل من روسيا وتركيا المجاورة، على أنه «تعضيد دولي» لموقف سورية، ولكن كلام المندوبين وتصريحاتهم المتاحة، تقول شيئاً آخر، على الأقل يدعون دمشق إلى النظر بتؤدة ويحثونها على الامتثال إلى قواعد الشرعية الدولية لا أكثر. الموقف من وجهة النظر السورية يبدو أنه معتمد حكماً على أن «اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال المرحوم الحريري» لها مقاصد أخرى أكبر بكثير من المعلن عنه حتى حينه، بالتالي تذهب الاستراتيجية إلى توظيف الفكرة القائلة: «إن سورية مستهدفة بسبب موقفها مما يحدث في كل من فلسطين والعراق»، وهو أمر فيه من التسويق السياسي الذي يعرف طبيعة الجمهور المخاطب (وهو العربي في الأساس)، وأن هذا الجمهور سيقبل الفكرة ويتحمس لها. فليس هناك عربي عاقل إلاّ ويتوسل موقفاً حازماً ضد ممارسات «إسرائيل»، كما أن هناك قطاعاً لا بأس بحجمه من الرأي العام العربي يرى رؤية دمشق نفسها في العراق. أما التكتيك الذي تتبناه دمشق توسلاً لإنجاح الاستراتيجية فهي «لعب ساحة لبنان» الهشة، التي يتخوف عليها الغرب، ويعتبر نجاح الاستقرار فيها وتسيير آلية الديمقراطية بين طيفها السياسي، نجاحاً للاستراتيجية التي يتوخاها ويعوّل عليها في الشرق الأوسط. خلخلة تلك الساحة اللبنانية من جانب حلفاء لدمشق في لبنان، قادرين وقابلين للفعل السلبي، يرى البعض في دمشق أن ذلك يعطل «الهجمة على سورية»، ويعطي دمشق اليد العليا في مبادرة تحريك المشهد. تضيف هذه الرؤية الاستراتيجية، إلى المشهد انشغال الغرب (أميركا وحلفائها) في العراق، وخوفهم من تكرار ما حصل هناك، يعطل أية خطوات يمكن أن تتخذ ضد سورية. بكلام آخر تستهدف تلك الاستراتيجية إظهار الممانعة السورية وكأنها ممانعة لمشروع أميركي سلبي وكبير في المنطقة، يضيع الممانعة الأخرى وهي تحديد أشخاص الفاعلين في الاغتيال الكبير للحريري، وترجئه إلى موضع الدرجة الثانية أو حتى انتهاء الملف برمته. الاستراتيجية كلها تتناقض مع ما كان (أبوالهول الدمشقي) على حد تعبير موسى ماعوز يفعل ويتصرف. إنها اختلاف في الرؤية بين «سباق المسافات الطويلة» التي كان المرحوم حافظ الأسد يعتمده، و«سباق المسافات القصيرة» المعتمد من دمشق اليوم. في لبنان يفوت لبنان الرسمي كل، أو قل معظم الحجج، فهو يتحدث عن (تحرير كل الأرض اللبنانية) بعد ترسيم الحدود بشكل رسمي وربما دولي. ويبدو أن الغرب مستعد وقابل وراغب، أن يقدم للبنان كل الكيلومترات التي قال بها بشير الجميل، وأكدها أخيراً حسن نصرالله. يعني ذلك من جملة ما يعني، أن يتم توافقياً حرق ورقة «الخاصرة» اللبنانية. يبقى السؤال المنطقي، وهو إذا كان البعض في دمشق بريئاً من دم الحريري، وهذا ممكن عقلاً، فإن أفضل دليل على البراءة هو التعاون الكامل، ومن دون شبهة تعطيل للعجلة الدولية. إلاّ أن هكذا قرار يحتاج إلى فهم كلي للمتغيرات الدولية التي كان الرئيس حافظ الأسد يستجيب لها بكل حذق. ينهي موسى ماعوز كتابه عن (أبو الهول الدمشقي) بالتساؤل: هل يحتفظ خلفاؤه بصيرورة بناء الدولة وإكمال مسيرته، أم أن خلفاءه، وقد سماه الكتاب وقتها كونهم (رفعت الأسد، على دوبا، على أصلان، على حيدر) ليس بقدرة قيمة حافظ الأسد؟، المؤلف وقتها لم يذكر أبناءه، فقد كان ذلك في علم الغيب... إلاّ أن السؤال لايزال قائماً.
إقرأ أيضا لـ "علياء علي"العدد 1173 - الإثنين 21 نوفمبر 2005م الموافق 19 شوال 1426هـ