ما هي أكبر الأخطاء التي يمكن ان يقع فيها الواحد منا؟ لديكم قائمة طويلة طبعا، لكن جوابي مختلف: «ان يسيء الحكم والتقدير». تحت هذا العنوان يمكن ان تلي تنويعات أخرى: «ألا يعرف مصلحته الحقيقية، ألا يعرف التفريق بين اصدقائه الحقيقيين وأعدائه». يلح علي كل هذا وأنا أعيش مع زملائي واخواني الصحافيين حمة تأسيس الصحف الجديدة. واذ اعتبر تأسيس الصحف نموا مطلوبا، فإن ما يقلقني هو انعدام القدرة على التمييز لدى الكثيرين بين النمو والطفرة. عندما يتعلق الأمر بالافراد، فإن الجميع يبحث عن الأفضل وهو طموح مشروع، لكن المشكلة في معرفة الطريق الأنسب أو الأصح نحو الأفضل. أتحدث فيما يخص الطموح المهني، ففي النهاية يملك الافراد دوافع متفاوتة قليل منها مهني وكثير منها شيء آخر والكثير منهم يعرف ما يريد ويتجه اليه بالطريقة التي يختار. ما يقلقني هو ان الطموحين أو الخامات الجيدة باتت تميل لاختيار الطريق غير الانسب. لقد أصبح الجميع الآن مهووساً بالالقاب والمناصب. هم معذورون لأنهم ابناء وقتهم، فإذا كان البلد بأسره يضع للمنصب قيمة اكثر من الفعل، واذا كان مثقفو البلد ونخبه السياسية والناشطون يوقعون الاسماء مسبوقة بالدكتور والمهندس و«أ» أي الاستاذ، فإن هؤلاء الشبان سيصابون بالعدوى من دون شك. في الربيع الماضي، كنت مستغرقا في مقابلة صحافية مع الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي وكنت استبقت أول سؤالين لها بكلمة: «دكتورة». ابتسمت المرنيسي وقالت: «انتو كثير مهووسين بالالقاب ناديني فاطمة فقط من دون حواجز». من هذه الخلفية، يأتي الشغف الآخر بالمناصب. وهذا يحركه دافع آخر: السيرة الذاتية. ملء السيرة الذاتية بأكبر قدر ممكن من المناصب، لكن اللاجدوى هنا لن تتضح الا عندما يتفحص المرء الانجاز الحقيقي لصاحب السيرة الذاتية في كل منصب شغله. لقد جاءني الكثير من الزملاء طلبا للنصح وآخرون شاءت الظروف ان اتحدث معهم. واذا كان الجزء الأعظم من الحديث من النوع الذي اعتبره طبيعيا، فإن اكثر ما كان يقلقني هو هذا الشغف الى حد الوله بالمناصب. لن تكتسب الملاحظة أية أهمية الا اذا استذكرنا حقيقة أخرى: معظم هؤلاء شبان حديثون مهنيا وخبراتهم لا تزيد عن ثلاث سنوات أو أربع كأقصى حد. بإمكاني ان اشير الى الاستسهال الذي مارسته الصحف طيلة العقدين الماضيين كسبب رئيسي. فهؤلاء الذين أصبحوا شغوفين بالمناصب على رغم حداثتهم المهنية، كانوا يرون أمامهم زملاء قدراتهم عادية وأقل من عادية احيانا يرتقون الى المناصب بعد فترة وجيزة من العمل. وكان اكثر متطلبات الارتقاء بالنسبة لادارات الصحف هو القدرة على توفير المادة لا نوعيتها، تسيير العمل ضمن المواعيد لا اكثر. في الغالب كان هؤلاء لا يملكون قدرات تفوق مرؤوسيهم ولا يملكون نظرة ابعد منهم، بل كان المرؤسون احيانا يفوقون رؤساهم جدارة. في هذه الحال اذا ما وضعت رئيسا غير كفؤ على رأس صحافيين جيدين فإن النتيجة هي صدام لا مفر منه، إذ سيعمد الرئيس الى ازاحة مرؤوسيه الأكفأ منه لانه يخاف منهم وتتملكه الغيرة منهم. كم صحافيا تعرض لهذا؟ العشرات واذا قدر للصحافيين ان يتحدثوا ستجدون ان غالبية القصص بينها خيط مشترك. أعود للتساؤل الآن: هل المنصب مقياس للجدارة المهنية؟ هذا ما يتعارف عليه الناس، لكن الامر في الصحافة مختلف تماما. كنت أوجه هذا السؤال لكل الزملاء الذين كانوا يأتونني طلبا للنصيحة وهم يضعون في ذهنهم مناصب ومسئوليات ادارية. والمنصب احيانا يبدو مقابلا للراتب الجيد (الطموح المشروع لنا جميعا)، لكن في النهاية يبقى معرفة الطريق الانسب لهذا كله. في الصحافة القانون مختلف عما هو سائد لدى الناس، فالمنصب قد لا يعكس جدارة مهنية خصوصا اذا ما كنا نتحدث عن شبان وشابات لا يزيد عمرهم المهني عن ثلاث او اربع سنوات. بل اكثر من هذا حتى لمن أمضى سنوات طويلة في المهنة. اننا نتحدث عن صحافيين متشابهين في القدرات، متشابهين فيما حققوه في عملهم، لكن الفارق يبقى في امكاناتهم للتطور. بعضهم يبدو اكثر قابلية من غيره، لكن هؤلاء اذا ما انتابهم هوس المناصب سيختارون الطريق الخطأ حتما. واذا ما استمرت الصحف في هذا الاستسهال الذي دأبت عليه في تسليمهم المناصب والمسئوليات ستقضي على جيل اخر من الصحافيين وستمضي في تخريب التقاليد المهنية الاحترافية مثلما كانت تفعل طيلة العقدين الماضيين. اولئك الذين يأتون طلبا للنصيحة ملحين على المناصب، كنت اسألهم: هل تعرفون روبرت فيسك؟ يجيبون نعم انه يعمل في صحيفة «الاندبندنت». اعيد السؤال: هل تعرفون رئيس تحرير «الاندبندنت» أو مدير تحريرها او المسئول المباشر لروبرت فيسك نفسه؟. الجواب: كلا. لكن المؤكد اننا هنا في الشرق الاوسط عرفنا صحيفة «الاندبندنت» البريطانية من خلال ما يكتبها مراسلها في المنطقة روبرت فيسك. وهذا اذا كان لديه من مسئوليات اداريه فليست اكثر من ارسال فواتيره نهاية الشهر لمقر الصحيفة في لندن. في سنوات عملي الاولى في الثمانينات، تلقيت هذا الدرس من قبل احد الزملاء المصريين. كان رئيس قسم الشئون العربية والدولية في صحيفة «اخبار الخليج» المرحوم سعيد نعمة الله طالبا قد أنهى دراسة الهندسة وتوجه من فوره الى «دار اخبار اليوم» ليقابل مصطفى امين. نظر اليه مصطفى امين شذرا وقال له: «اذهب للعمل بوابا للمصعد». لم يحاجج نعمة الله بل توجه في اليوم التالي الى الادارة وارتدى لباس عامل المصعد وراح يعمل شهرين او ثلاثة. كان مصطفى امين يشاهده كل يوم في المصعد ويوما ما قال له: «انت لسه هنا ما تروح الحسابات علشان يعينوك في القسم الخارجي». كان امين يمتحن صبر الشاب المتقدم للعمل كصحافي، هل يملك الصبر. الخصلة المفقودة في صحافيي اليوم، الخصلة التي دمرتها الصحف على مدى العقدين الماضيين بجدارة عبر اشاعة الاستسهال وتحويل المثابرة الى مقاييس الترقي في انظمة الخدمة المدنية: العبرة في المناصب. النتيجة النهائية اننا منذ الثمانينات حتى اليوم نردد: اين الصحافيون الجيدون. هؤلاء اصبحوا نادرين لان المقاييس اختلطت امامهم، واذا وجدوا فانهم يضلون الطريق. فصحافتنا ليست المكان المناسب للمثابرة وخلق التقاليد المستقرة. والصحافيون في اجواء كهذه اصبحوا غير قادرين على التفريق بين النمو الطبيعي والطفرات. واحدى الثمار هنا انهم قد يخطأون الحكم والتقدير ولا يهتدون للطريق الأنسب لتحقيق الطموح المشروع.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1173 - الإثنين 21 نوفمبر 2005م الموافق 19 شوال 1426هـ