في أحد أيام صيف العام الماضي، نزلت الطائرة في مطار اسطنبول، وكان على المسافرين العائدين إلى البحرين أن ينتظروا ثماني ساعات ليستقلوا الرحلة الجديدة. وكان أمامنا خيار أن نبقى ثماني ساعات في المطار، أو أن ننزل المدينة، وهكذا اخترنا النزول. زميلي الصحافي فضّل أن يتسوق، فيما فضلت زيارة بعض الأماكن التاريخية. المرشد السياحي عرض عليّ عدة أماكن وخيارات لقضاء هذه الفترة القصيرة، فزرت أكبر الجوامع وأضخم القصور في عاصمة الخلافة العثمانية. السياحة هناك تشكّل أحد أعمدة الاقتصاد، إذ بلغ دخلها 15 مليار دولار، وزار تركيا 17,5 مليون سائح ما بين شهري يناير/ كانون الثاني وأغسطس/ آب من العام الماضي، وكان من السهل التعرف عليهم من وجوههم، أوروبيين ويابانيين وهنوداً وباكستانيين وعرباً وماليزيين. الزائر يلحظ الاهتمام الكبير بالقلاع والحصون والقصور والمتاحف، ومن الواضح أن المدينة ضاقت بسكانها (10 ملايين) فأخذت تخرج عن أسوارها القديمة، ولكن الأتراك أبقوا أجزاء منها لتذكير الزائر بحدود مدينتهم القديمة، وهو أمر منطقي جداً في بلد يفكّر اقتصادياً بشكل صحيح. نحن في البحرين، لدينا واحدة من أغنى البلدان ثراءً تاريخياً، فعلى هذه الأرض عاشت حضاراتٌ عريقةٌ تضاهي حضارات وادي النيل وأرض الرافدين من حيث القدم، ولكن بدل التفكير في صيانة هذه الآثار قمنا بتدمير أكبر مقبرة في العالم وتوزيعها قسائم سكنية، لأن «الحي أبقى من الميت» كما قال أحد النواب، فيما قال زميله إنها حضارات «قوم مشركين»، وبالتالي لا بأس من القضاء على آثارها والإبقاء على قبر واحد كنموذج ليراه السائحون، لو أخذ أيٌ منا جولة على الساحل الشمالي للجزيرة الأم مثلاً، لرأى في كل متر معلماً أثرياً، أو بقايا معبد أو مسجد، أو حصن أو قلعة أثرية، حتى يصح القول إن السكان لا ينامون على وسائدهم، وانما على طبقات من الحضارات السابقة. هذا الوعي المتدني لدى بعض النواب، نجد صداه أيضاً على مستوى أكبر، إذ حين مرّ أحد الوزراء على موقع قلعة البحرين، (البرتغال سابقاً)، أشار إليها باستخفاف قائلاً: «إنها مجرد خرائب»، ولولا انتقال الموضوع إلى جهات عالمية لتحوّلت القلعة إلى قسائم سكنية بعد إزالة أنقاضها، ولكن لحسن الحظ، ان شخصيات وجهات «أجنبية» تملك حساً حضارياً تدخّلت لتضعها على قائمة التراث الإنساني الذي تسعى اليونسكو للحفاظ عليه. ولو توفّر مثل هذا الإحساس بغلاء تربة الوطن، لأسرعنا للحفاظ على ما تبقى من أنظمة قنوات الري التي تعود إلى مئات السنين، أصبحت اليوم في أراض يحتازها أغنياء لا يفهمون غير لغة الدولار. كل هذا الثراء الحضاري والتاريخي، أضعناه حين اختصر بعض رجال الأعمال والمستثمرين، موضوع السياحة في الفنادق والبارات والصالات المغلقة. ومن المأساة أن تتولى فئة من الصحافيين الدفاع عن هذا التوجه الضيق الأفق، بما يفتح الباب للتساؤل عن الفائدة التي تجنيها هذه الفئة على حساب الوطن، خصوصاً مع تلك الحملة المركّزة ضد أي انتقاد أو مراجعة أو «مؤاخذة» لمثل هذا التوجه «السياحي» الأحادي الجانب، وما رافقها من تسريب أرقام مشكوك فيها، لا يعلم الرأي العام مصدرها ولا مدى صدقيتها ولا من سرّبها. عملياً، وبعيداً عن المزايدات، السياحة لا تمثل غير نسبة ضئيلة من الناتج المحلي الاجمالي (2,3 في المئة فقط)، فلماذا تصوير الأمر وكأنه انهيارٌ وشيكٌ لأهم قطاع «منتج» في الاقتصاد الوطني؟ وهل يمكن أن يصارحونا بالأرقام: من هم المستفيدون تحديداً من هذه التجارة؟ وهل يمكن قبول اختزال السياحة في صالات «الأنس» المغلقة؟ قبالة الأرقام «الغامضة» والمشكوك فيها، قرأنا أرقاماً من مصدر مسئول في إدارة السياحة تقول إن حركة اشغال الفنادق شهدت ارتفاعاً خلال أيام عيد الفطر السعيد، «ما يعكس مدى الاقبال المتزايد للعائلات الخليجية والسياح الاجانب على البحرين كمقصد سياحي» على حد تعبيره. وأوضح في تصريح أوردته «بنا»، ان غالبية فنادق فئات الخمس نجوم وصلت فيها نسبة الاشغال إلى مئة في المئة، فيما تجاوزت التسعين في المئة في فنادق الأربع نجوم، وتجاوزت التسعين في المئة في فنادق الثلاث نجوم. حتى فنادق النجمة والنجمتين بلغت النسبة فيها مئة في المئة. السواحل في تركيا تمتد 7200 كم، ومن حسن حظ الاتراك والسواح معاً، انها مفتوحة للعموم، ولم تتعرض للقضم و«البلع» والازدراد، يكفي أن تقف على المضيق أو تستقل أحد المراكب السياحية أو تعبر على الجسر لترى عظمة المدينة. أما هنا فلم يبق للمواطن ولا للسائح غير «قطع» بسيطة من السواحل يمكن قياسها بالسنتيمتر: قطعة صغيرة في سترة، وقطعة أخرى في المحرق، وثالثة في النبيه صالح... فيما اختزلنا السياحة في ثلاثة أقانيم صغيرة: «العود والطنبور والوجه الحسن»،
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1173 - الإثنين 21 نوفمبر 2005م الموافق 19 شوال 1426هـ