تخاله لوهلة، وأنت تتابع برنامج "أدب السجون"، الذي بث ثلاثة مرات خلال 48 ساعة عبر قناة "الجزيرة"، إنه مشهد "طبيعيي" ومتكرر في السجون العربية الممتدة من البحر إلى البحر، غيار أن "الطبيعي" من المفترض، لا يمكن أن يكون وحشيا، لا إنسانيا بهذه الدرجة أللا أخلاقية لجل أنظمتنا العربية. ربما برنامج من هذا النوع، أو فيلم وثائقي بهذه الجرأة من إخراج هلا محمد، ويحكي فيه ثلاثة أبطال فقط: سجينان سياسيان وامرأة من سورية هم: الفنان عبد الحكيم خليفان، وذاك المغرم بالشعر والأديب عدنان مقداد، وتلك الأديبة حسينة عبدالرحمن، يكفي لتعرية سوداوية نظام بكامله، ولكنه قد يخرج علينا قائل: إن توقيت البث الآن يندرج ضمن الهجمة "الامبريالية" ضد سورية، فيما يرى آخرون، أن بثه كان متأخرا، لكن كما يقول المثل الروسي: "أن يأتي متأخرا أفضل من أن لا يأتي أبدا"، ليس انتقاما أو ثأرا، أو كراهية لنظام، بقدر لا تتكرر مثل هذه المآسي مرة أخرى، والدنيا تصبح خوفا، والخوف دائما يدفع الناس إلى الكذب والرياء، كما جاء على لسان حسينة التي قضت سبع سنوات بين الزنازين والسجون متنقلة هنا وهناك وفي ذاكرتها مرارة على تعطيل مشروع ثقافي باعتقال أصحاب الرأي بسبب اختلاف سياسي مع الحكم من دون أن يحملوا سلاحا. أما مقداد، فقضى من عمره 15 عاما بتهمة انتمائه للإخوان مع إنه شيوعي، وهذه مفارقة عجيبة "!"، تماما كما في الفيلم المصري "إحنا ابتاع الأوتوبيس"، وتنقل من سجن لآخر، وحط به الرحال بسجن القلعة وسجن الشيخ حسن في مقبرة بسورية، "سجن في مقبرة للدفن السريع" وهذا السجن كثير من السوريين لا يعلمون عنه شيئا، وكذلك الحال بالنسبة للفنان خليفان الذي عاش قصة حب، وهلوسة ذهنية، وحلم بوقوفه على خشبة المسرح للتمثيل أو نسج علاقة عاطفية بامرأة، وأن يكون بلده أفضل وأحسن، كما من حق أي مواطن أن يحلم بذلك، ومع ذلك قال بغصة في بلعومه: مازلت خائفا... عن جد، لا أعرف لماذا أنا خائف؟! ربما خليفان يعرف بالضبط لماذا هو خائف، على رغم أنه أصبح حرا، وممثلا معروفا في سورية وفي الوطن العربي، وحاله حال جل سجناء الضمير الذين أودعوا السجون من دون أن ينتموا إلى أحزاب مسلحة. تعرفون لماذا؟. لأنه فقط، أن معظم أنظمتنا العربية تتطور بشكل غير طبيعي؛ يأتي انفراج سياسي لا يعمر طويلا، ثم كبوة، يليها ضربة لتيار/ تيارات فكرية تمتلي بها السجون عن بكرة أبيها من المعتقلين السياسيين والنخب الثقافية، ولأن الإصلاحات في شرقنا الحبيب مثل المرأة العاقر، تناقش وتناقش، لكنها لا تلد، فإن الأمر على هذا الحال سيطول؛ ولان هذه الإصلاحات أيضا، ليس في قاموسها مصطلح "العدالة الانتقالية" الذي انتهجته جنوب إفريقيا بجدارة وحققت المصالحة الوطنية الحقيقية، فيما تخطو خطوات متقدمة فيه المغرب الشقيقة لمحاسبة المسئولين عن الانتهاكات بتشكيل لجان الحقيقة، وما إلى ذلك من أساليب عصرية لمنع تكرار الماضي القبيح بسوداويته. قرأنا ما يشيب له الرأس من أدب السجون في شرقنا الحبيب، وتعرفنا على سجناء لم تقهرهم المعتقلات، بل قهروها، كما تعرفنا على حكايات كادت أن تدفن داخل السجون، غير أننا لم نتعرف بعد على حالات تم فيها إنصاف سجناء الضمير، أو الذين جرت محاولات لتصفيتهم عن طريق "حوادث سير طبيعية، وغير طبيعية خلال مزحة الاغتيالات السياسية"، إلا فيما نذر بالمغرب وما يجري الآن في العراق الجديد الذي يحن البعض المهزوم إلى عودته للماضي البغيض. أحلام ضحايا التعذيب عن الإصلاحات الحقيقية ليست وجاهة وضربا من المستحيل، فهم يحلمون بيوم يغير فيه الشعب معنى هذا المصطلح لصالحه، لا كما يجتره الحكام اجترارا عبر وكالات الكلام الرسمية، والمقابلات الثنائية التي تجمعهم بالغربيين، أو الأميركان، ويثخنون به آذاننا صبح مساء، من دون أن يثب إلى حياتنا عمل ينبع من صميمه، وذلك ببقاء الأدوات القمعية القديمة في عصر كلمة الإصلاح العظيمة التي تنتشر في كل مكان، لكنها كالغانية في قاموسهم، تكون للمتعة لا للثمر والإنجاب. إصلاح من هذا النوع بمثابة "شهيق وزفير الدم" الذي سيستمر على ما يبدو في شرقنا الحبيب، وهذا ما لا يتمناه أحد، لا لناسه، ولا حتى لغير ناسه، تماما كما عبر خليفان الخائف بعد أن ذاق طعم الحرية: هل يتمنى أحد منكم أن تكون بلاده مختبرا لصنوف تجارب التعذيب بما فيها "الطريقة الايرلندية"، أو التعليق والفلقة، أو الخرم بالمثقاب، وضع مواطنيكم في أقفاص لأنهم يختلفون، أو يعارضون سياسة حكوماتهم سلميا؟
العدد 1171 - السبت 19 نوفمبر 2005م الموافق 17 شوال 1426هـ