اعتبر السيدمحمد حسين فضل الله أن الفريق الذي يعمل على إشعال النيران المذهبية هو من أكثر الفرق خيانة للأمة، مشيرا إلى أن تخوين المسلمين واتهامهم بالعمالة تحت العنوان المذهبي أو في ظل الخلافات الفقهية هو من أعظم المحرمات. وأكد على رفض السنة والشيعة للاحتلال، مؤكدا على إبعاد المسألة الخلافية في الفقه عن العناوين السياسية، وأعلن رفضه ادخال المسألة الإسلامية والمسيحية في العناوين السياسية. ورأى فضل الله "أننا نواجه مرحلة صعبة ومعقدة في المنطقة"، مشيرا إلى حرائق كبيرة ومطبات كبرى قد تنتظرنا في المنطقة، مؤكدا أن الأمة نجحت في بعض المواقع ويمكنها أن تحرق أصابع الإسرائيليين وأعوانهم في مواقع أخرى. جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن أخطار المذهبية واستخدامها في العناوين السياسية؛ وفيما يأتي نقدم الجواب مفصلا. يمثل الاختلاف في وجهات النظر على المستوى الفقهي أو العقيدي أمرا مألوفا في التاريخ الإسلامي، ولا ينظر إليه بطريقة سلبية مطلقة. ولهذا نجد أن القرآن الكريم ذم الاختلاف الذي يؤدي إلى التنازع، ولم يذم مجرد الاختلاف في وجهات النظر في القضايا النظرية الاجتهادية، ولكن القرآن الكريم في الوقت نفسه وضع الآليات التي من شأنها أن تشكل ضوابط لإدارة الخلاف. فالاختلاف في وجهات النظر ليس مشكلة، ولا مدعاة للانتقاص من هذا الطرف أو ذاك، وليس مؤشرا على التخلف، وإنما المهم هو أن نحسن إدارة خلافاتنا وفق الضوابط الموضوعية والآليات القرآنية وأهمها الاحتكام في حسم الاختلاف إلى مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، قال تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" "النساء: 59". ليس هذا فحسب، بل إن الاختلاف في وجهات النظر قد يشكل عنصر ثراء وعامل غنى لما له من دور وإسهام في إنضاج الأفكار وتجلية الحقائق، ولهذا نلاحظ أن العصر الذهبي للإسلام كان عصر التعددية الفكرية والمذهبية ولم يكن عصر الرأي الواحد والمذهب الواحد، ولم تكن كل تلك الاختلافات الفقهية والكلامية تشكل عائقا أمام حركة الإسلام وتقدمه ورقيه، ويعود السبب في ذلك إلى أن المسلمين في العصر الإسلامي الأول وفي العقود التي تبعته أحسنوا الوسيلة والطريقة في إدارة خلافاتهم، ولم يعرفوا الاستبداد في الرأي، بل تحركوا وفق قاعدة رفض الرأي لا رفض صاحب الرأي، فكانوا يرفضون رأي الآخر ولكنهم لا يفرضون رأيهم على الآخر. ولقد كانت وحدة المسلمين بكل تنوعاتهم الاجتهادية والمذهبية فوق الاعتبارات الأخرى، وتمثل عندهم مقدسا أساسيا، فلم يسمحوا للخلافات مهما اتسعت دائرتها أن تلامس هذا المقدس لتمزق الأمة وتشرذم وحدتها. وما أحرانا اليوم بأن نأخذ بهذه القواعد الإسلامية لإدارة الحوار في الأمور المذهبية وغيرها، ونقتدي بالسلف الصالح ممن كانوا يؤثرون مصالح الأمة ووحدتها ولو أدى ذلك إلى الخسران على المستوى الشخصي، كما فعل الامام علي"ع" الذي جمد كل خلافاته مع من سبقه إلى الخلافة حرصا على وحدة الأمة وسلامتها، وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا علي خاصة". إن المسئولية الإسلامية تقع على عاتق علماء المسلمين من السنة والشيعة ومثقفيهم في كل المراحل، غير أن هذه المرحلة بالذات تستدعيهم إلى التحرك على جميع المستويات لحفظ وحدة الأمة وألا يسهموا في تمزقها، وألا يجعلوا من الفوارق المذهبية الكلامية أو الفقهية مدخلا لتمزيق الأمة وتشتيت قوتها وتفتيت وحدتها، بل عليهم العمل على تحصين الوحدة الداخلية في وجه التحديات الخارجية التي تحاصر الأمة لتدمر واقعها وتحرق مستقبل أجيالها وقضاياها، كما تعمل في الوقت نفسه على محاولة النيل من الإسلام كدين وكشريعة ومنهج حياة. إن الخطورة تكمن في أن البعض ممن غلب الجهل على عقولهم، أو قادهم سوء التقدير إلى خلط المسألة السياسية بالعناوين المذهبية أدخلوا الأمة في متاهات أمنية وفي شقاق دموي في بعض المواقع على حساب الأولويات الإسلامية الكبرى وأفسحوا في المجال للمحتل أن ينهش في الجسد الإسلامي وفق لعبة "فرق تسد" وعلى أساس استهداف موقع هنا والاستفراد بجماعة هناك، وصولا إلى ساحات الأمة كلها. ولذلك فإنني اعتبر أن الفريق الذي يعمل على إشعال النيران المذهبية في هذا الموقع أو ذاك، سواء اكان دينيا أم سياسيا أم إعلاميا هو من أكثر الفرق خيانة للأمة في تاريخها وحاضرها ومستقبل أجيالها. وهو الفريق الاحتياطي أو المجاني الذي يعمل لمصلحة المستكبرين ولمصلحة الاستكبار الأميركي والصهيوني تحديدا، في مواجهة الأمة في قضاياها الكبرى وفي احتياطها الجهادي والعلمي والشعبي المتبقي لنا في هذه المرحلة بالذات. لقد كنا نقول للجميع إن الخلافات الفقهية أو المذهبية تمثل وجهة نظر في فهم الإسلام، وخصوصا أننا نجد كما منها داخل المذهب الواحد، بل قد نجد توافقا بين هذا المذهب وذاك على قضية هي قضية خلافية داخل كثير من المواقع الفقهية في مذهب معين، وعلى هذا الأساس فإننا نرى في إسقاط القضايا السياسية على الخلافات الفقهية أو في تمييز المسلمين وتخصيصهم من زاوية انتماءاتهم المذهبية أو الفقهية وفي تخويفهم وتكفيرهم واتهامهم بالعمالة تحت هذا العنوان أو ذاك هو من أفظع المحرمات وأعظم الخيانات التي ستطل بنا على مستقبل تدميري لواقعنا ولوجودنا ولامتداد حركتنا كأمة بين الأمم وكحضارة بين الحضارات. ولذلك نقول لكل الذين يتحركون لخدمة الاحتلال والاستكبار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكل الغافلين عن قضايا أمتهم أو الذين أسقطتهم التجارب فكانوا ضحايا الإعلام الموجه: إن العنوان السني والشيعي لا دخل له في قضايا مواجهة الاحتلال أو في عناوين التصدي للمجرمين والظلمة هنا وهناك، حتى يقال إن هذا المذهب يؤيد وذاك يعارض، لأنه لا يوجد عند السنة أو الشيعة من يقبل بالاحتلال أو الظلم أو الإجرام من خلال زعمه بأن الإسلام يقبل ذلك. وفي المقابل، فإن من يقف إلى جانب الاحتلال يمثل عونا للمستكبرين والكافرين ضد المسلمين، وكذلك فإننا نريد للجميع أن يبعدوا المسألة الإسلامية والمسيحية عن العناوين السياسية وألا يدخلوا الخطوط السياسية في ابواب الإثارة الدينية هنا وهناك. إننا نواجه مرحلة صعبة ومعقدة في المنطقة كلها، وتنتظرنا حرائق كبيرة ومطبات كبرى، فعلينا أن نخطط لتكون هذه الحرائق مقبرة للغزاة وللمحتلين أو الذين يعملون ليجعلونا وقودا لها، فلقد نجحت الأمة في أكثر من موقع في أن تجعل أصابع الإسرائيليين وأعوانهم تحترق بنيران حروبهم ويمكنها أن تنجح في مواقع أخرى، وإن أول انتصار يمكن أن يكون مقدمة للنصر المظفر الكبير يتمثل في الانتصار على الذات لحساب وحدة الأمة في دينها وعروبتها وفي عناوينها الوطنية الكبرى.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1169 - الخميس 17 نوفمبر 2005م الموافق 15 شوال 1426هـ