عرفت نعيمة السماك، كاتبة للقصة القصيرة، بغض النظر عن رصانة وقيمة ما تكتبه، بعدها بدأت بنشر - ولا أقول كتابة - بعض من نصوصها الشعرية في بعض الصحف المحلية، وهذه المرة أيضا بغض النظر عن رصانة وقيمة ما تكتبه! التعجل في نشر نصوص التجربة الأولى، يكاد يكون سمة عربية. لا وقت للتأني والتريث، لا وقت لترك حال من التراكم تتشكل، ومن ثم الدخول في مرحلة الفرز - الفرز المسئول - لما يراد نشره في مجموعة، سواء كانت قصصية أو شعرية. مثل ذلك التعجل يعرض التجربة إلى اهتزازات وصدمات بالجملة، يتصدى لإحداثها عدد من الكتاب وأنصاف النقاد الذين يجدون في النماذج الأولى - قبل اختمارها - فرصة سانحة لاستعراض بلاغات فارغة، وتحميل النص ما لا يحتمله - أحيانا - وكأنها دعوة مفتوحة من بعض أولئك المتعجلين كي يتعرضوا لدرجات من "الشرشحة والبهدلة" التي تتجنب - في كثير من الأحيان - موضوع الفحص/ القراءة، لتنشغل بالهامش منها. بين يدي مجموعة "طقوس امرأة" الصادرة عن "فراديس" للنشر والتوزيع في 96 صفحة، يتألف منها 45 نصا عبارة عن ثلاثة دفاتر وبوابة. أول ما لاحظته ضمن القراءة الأولى للمجموعة، سمة اللغة الباردة والمصطنعة في هدوئها وانفعالها، ومحاولة مجاراة تجربة "الهايكو" اليابانية، من خلال المقاطع المكثفة على مستوى اللغة والصورة والمضمون، وبأقل قدر من الكلمات والمقاطع، إضافة إلى إخفاق في القبض على اللحظة الشعرية في الكثير من النصوص التي حوتها المجموعة. على رغم أن المجموعة تحمل اسم "طقوس امرأة"، فإنها تكاد تخلو من تلك الطقوس التي تحرتها، وخصوصا حين تحصر تلك الطقوس في "منولوجات" داخلية، خاطفة... سريعة، يغلب عليها السرد العادي، والكلام اليومي. من المعروف أن الطقوس عموما تأخذ أشكالا ومضامين في الحياة والحركة ،الكتابة واليقظة، النوم، والعلاقات، بحيث يكون لتلك الأشكال والمضامين حضورها المؤثر، ربما لاختلافها ومغايرتها، ولكنها حين تدخل في السمات والعوامل المشتركة مع ما عداها، تسقط عنها صفة الطقوس. والطقوس بطبيعتها متحركة، متقلبة، وغير ثابتة على حال، ومتى ما حدث ذلك، يصبح الأمر مجرد دورة طبيعية من دورات الحياة، تماما مثلما هي دورة الليل والنهار، إذ لا تكمن الشعرية في الدورة نفسها، بقدر ما أن الشعرية تتحدد في ما يتم ملؤه والتحرك فيه من تلك الدورة وبأشكال وصور ومواقف مغايرة. طقوس المرأة في مجموعة السماك، لا تعدو كونها مملة ورتيبة ودون العادية، امرأة تكرر وتمارس طقوس عشرات الملايين من النساء، وقد تبدو حالمة في بعض المقاطع وبشيء من النفس الشعري، ولكنها حالمة بسذاجة حينا، وبتعقل حينا آخر، لا مظهر لامرأة حالمة ومنتبهة وعاشقة ومتمردة بجنون. وإلا لست أفهم أي ملمح شعري من تلك الطقوس يمكن الوقوف عليه في مقطع من نص "غياب": لا تأت لا تمد ذراعيك تغيب عن المواعيد والأمكنة! يمكن لطقس الغياب أن يشعرن وبكثافة عالية فيما لو لم تعمد السماك الى رصده تماما، كما ترصد كاميرا تلفزيونية شارعا، أو حديقة خالية من المارة والمرتادين. أين هي زاوية اللقطة الشعرية للغياب؟ على العكس فيما لو أن الكاميرا نفسها رصدت الشارع نفسه وهو خال إلا من امرأة غلبها النعاس في انتظار أحدهم. ولست أدري اين هو الفضاء الشعري في طقوس امرأة غادرت، فأودعت الوطن أحبتها، أولادها، زوجها،أمها،أباها، إخوتها؟ ألا يمثل ذلك تسطيحا وتشظية ومصادرة للحظة الشعرية بل وقتلا لها، حين يتم إقحام قائمة لأفراد العائلة وتمريرها على أنها جزء من بناء الشعر وعمارته في النص، بكل ما لذلك البناء والعمارة من دلالات وحساسية في التوظيف؟ يمكن القفز في جانب من الكلام العادي والمكرر، الى المساحة الشعرية، ما دام الشاعر قادرا وممتلكا لمجسه الخاص، المجس الذي يقوم بعملية القفز تلك. على هامش لقاء أجريته مع الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، تحدث عن هذه المسألة بشاهد عن طقوس نساء صادفهن في عدد من عواصم العالم بدءا من دمشق، مرورا بعمان، عدن وانتهاء بالعاصمة البريطانية "لندن": "قالت لي امرأة ذات مساء - وكانت باذخة في حضورها، ولو وزعت كمية تفاؤلها في تلك اللحظة على سكان العالم لفاضت عن حاجتهم -: اخاف الشمس! ما جعلني استقبل تلكما الكلمتين بحاسة شعرية، إذ أن واقع حالها يشير إلى انها كانت مشعة ومضيئة، وكأن الضوء من بعض خواصها، لأفاجأ بخوفها من الشمس!". ما لم يمارس الشاعر طاقته الخلاقة في التقاط العادي من الكلام/ الصورة/ الموقف، ويدخله في فضائه الشعري المكتنز، بحيث ينتهي في صورة وهيئة ومضمون غير ذلك الذي يمكن أن يعهده أو يستقبله القارئ، فمن الخير له أن يبحث له عن دور آخر غير هذا الدور، دور تحويل الجامد إلى متحرك، والساذج من الكلام إلى شعر، بمعنى آخر: تعزيز حضور ودور الجمالي في كل حركة ودور وموقف يظل مطلعا به أو شاهدا عليه، أو في الصميم من حركته. يمكن القول بأن المجموعة في معظم نصوصها توجه محض لنفي الشعر وإخراجه قسرا من مكانه اللائق به.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1168 - الأربعاء 16 نوفمبر 2005م الموافق 14 شوال 1426هـ