عقبت الأخت زينب العالي على ثلاثة مقالات كتبتها أخيرا، وكانت تعقيباتها تنضح بالوطنية، وتمنت في التعقيب قبل الأخير، "تخصيص مقال أسبوعي - كيوم الأربعاء على سبيل المثال - يكون عبارة عن سلسلة من مذكرات وتاريخ المناضلين والناشطين البحرينيين، وعن ما عانوه وما تكبدوه ثمنا لنضالهم ونشاطهم السياسي والحقوقي وعلى جميع الأصعدة". وأضافت: "مبهر ومؤثر فعلا، هو حجم تلك الخسائر التي تكبدوها، من سني عمرهم ودراستهم، عدا الصعوبات التي تلقوها وواجهتهم في سبيل تحقيق ذاتهم ومبادئهم". ثم واصلت قولها: "ربما قرأنا الكثير عنهم ولكن لم نك لنقرأ بهذه التفاصيل وتلك الخصوصية التي أشرت إليها في مقالك. وأعتقد بأن مثلي الكثيرين من الشباب ممن لديهم الرغبة والحماس لمعرفة تاريخ هؤلاء المناضلين بالتفاصيل والطريقة التي ذكرتها". وفي موضوع آخر، علقت على التنحي لـ "روزا البحرينية" ومشيمع، السنقيس، العسبول من الأمانة العامة للمؤتمر الدستوري وقالت: "الاستقالة تعني التنحي، والتنحي يعني الوصول إلى طريق مسدود، ما يعني الاستسلام الذي لم يكن مأمولا من روزا البحرينية. حقيقة هذا التنحي يقود ذاكرتنا إلى الوراء لموقف الجمعيات التي قاطعت النيابي يومها وها هي اليوم تعلن عن موقفها وسط سخرية البعض وتهكم البعض الآخر". لا أود هنا أن أعلق على تعليقاتها، أو أضيف أو أزيد، لكنني سأكتفي بـ "حلم العقلاء"، والتي زينب كما أعتقد واحدة منهم، فننحني بخشوع لكل المضحين والمضحيات من شعبنا، المعروفين منهم والمغمورين، أو كما يحلو للبعض إعطاءهم صفة "النكرة"، غير انهم ليسوا كذلك، بل إنهم "لحم حي ودم" ولوحة متجسدة كلوحة الفنان الاسباني فرانسسكو جويا، التي جعل عنوانها: "أحلام العقل" يصور بها رجلا منهوك القوى، جلس على كرسيه إلى جوار منضدة، مادا ساقيه إلى الأرض، ملتفة منهما ساق على ساق، والرأس مستور بالذراعين - تماما كما حكا عنها الكاتب زكي نجيب محمود في مجموعة مقولاته: "نافذة على فلسفة العصر"، التي كتبها في مجلة "العربي" الكويتية، إذ قال عن الرجل منهوك القوى: "إنه منكب على سطح المنضدة، وحول الجسد المهدود هومت كائنات غريبة مخيفة، منها ذوات جناح كأنها الخفافيش ركبت عليها رؤوس البوم، ومنها روابض على الأرض ربضة الفهد المفترس يتحفز لفريسته". هنا يسأل زكي محمود: "ترى هل رقد الرجل في جلسته رقدة النعاس، أم غفا غفوة السارح في أحلامه؟ لسنا ندري، لكن تأويلات المؤلين من نقاد الفن، تذهب في تفسيرات الصورة مذاهب شتى، فتأويل يقول إن الصورة رمز للعقل إذا غفا فتداهمنا مع غفوته وحوش الخرافة والضلال، وتأويل آخر يقول إنها رمز للعقل وقد انتصر بغزواته، فثمل مخمورا بنصره، وظن انه قد أصبح وحده سيد الموقف ومالك الزمام، فما لبث أن أحاطت به أسباب الهلع والجزع". الكل يدلي بدلوه عن هذه اللوحة التي رسمت في القرن الثامن عشر، غير أن النقاد تناسوا العبارة التي كتبها جويا على جانب المنضدة التي استلقى عليها الرجل منهوك القوى بالتصوير الذي ذكرناه، إذ كتب يقول: "إذا العقل استغنى عن الخيال، تولدت أشباح مخيفة، أما إذا اقترنا، فانتظر منهما المعجزات". سيدتي زينب، أود أن أخذلك هذه المرة، ليس بـ "فلسفة الفلسفة" حول لوحة جويا "أحلام العقل"، التي تداهم كل واحد منا، ولا بسرد سيرة مناضلين تعج الساحة البحرينية بهم وبحكاياتهم ومغامراتهم وعنفوان شبابهم: فهناك من ضحوا وقدموا الكثير من دون أن يذكرهم أحد، ولا يعرف عنهم أحد، ولم ينصفهم أحد: هؤلاء من ضحايا التعذيب، وضحايا الاضطهاد والتمييز والقهر الطبقي والجوع إلى آخره. فعندما نرى شخصا منهوك القوى من هؤلاء: "مخبول الهيكل، أو مرتب الهندام، يضحك أو سارح التفكير، أو يهذي، سمين أو ضعيف" يجلس أمامنا، ونسمع حكايته، ونعرف معاناته، أو ما يتناقل الناس عنه من أحاديث موجعة، حتما ستدخل غلالة من الحزن في داخلنا... فنحن بشر، اللهم إلا إذا كانت بعض القلوب من حجر، فلا حول لنا ولا قوة، وها هنا تأخذنا الرياح "مواتية حينا، ومعاكسة حينا" حتى يطول بنا العمر أو يقصر. وددت أن أكتب عن "عيسى وفاضل" وغيرهما كنماذج لحكاياتهم المفزعة، فالأول سقط رفيقه شهيدا أمام عينيه، وجن جنونه من الواقعة ومن شدة التعذيب فيما بعد؛ والثاني شهد واقعة 5 مايو/ أيار 1997 الشهيرة صباح ذلك اليوم في "القلعة" وتساوى مع جلاده في زنزانة واحدة، وشاهد القاتل والمقتول، وعرف الحكاية بأدق تفاصيلها، في حين لم تغط الصحف هذه القضية إلا بثلاثة أسطر آنذاك... غير أن المساحة لا تتسع هنا، فللحديث عنهما صلة في وقت لاحق في هذا المكان بإذن الله
العدد 1167 - الثلثاء 15 نوفمبر 2005م الموافق 13 شوال 1426هـ