تخرجت من جامعة البحرين منذ سنوات، وتعمل بإحدى الوزارات حاليا. تحرص على المشاركة في الندوات السياسية والفعاليات المشابهة طوال سنوات. أبوها رجل أمي، تزوج أمها على كبر، وكانت الزوجة الثانية في حياته، وأنجب منها عشرة أطفال. لم يعرف هؤلاء شيئا اسمه "حياة أسرية"، انما عاشوا في خلاف ونزاع دائم، كأنهم في قارب تتقاذقه الأمواج، لا يمر يوم من دون ضرب، وتكون الزوجة طبعا هي الطرف المضروب. بعد عشرين عاما من العلاقات المختلة، كان لابد للمأساة من نهاية، فوقفت تطالبه بالطلاق، بعد أن استطاعت أن تجد لها عملا بسيطا يسد الرمق، لعلها تنعتق من وطأة الذل المقيم. ورمى لها الزوج "الشهم" بشرطه: التنازل عن النفقة. بل واشترط على أبنائه وبناته التوقيع على ورقة رسمية بعدم مطالبته بـ "فلس واحد"، ووقعوا دون تردد، لأنهم كانوا يريدون الانعتاق... ولأنه لم يكن ينفق عليهم من الأساس. بعد أسبوع، وقفت سيارة الشرطة على باب المنزل لإخلائه بأمر من المحكمة، فهذا هو حكم القاضي، وهكذا ينص القانون. ووجدت الأم نفسها في الشارع مع أولادها العشرة، إلى أن يسر الله لها منزلا متهالكا لجأوا إليه. هذه الشابة الجامعية، الموظفة حاليا بإحدى الوزارات، كان من المفترض منطقيا أن تكون في مقدمة مسيرة النساء المطالبات بقانون الأحوال الشخصية، أو الأسرية، ولكنها كانت من بين المشاركات في مسيرة الأربعاء الضخمة. قصتها تعبر بصدق عن حال الكثيرات ممن دخلن المحاكم واصطدمن بمآسي القضاء. وكانت تقول بالحرف الواحد من واقع تجربتها الحية: "لا نريد ظلما أو إهانة للمرأة، كفاية بهدلة... ولكننا لا نريد شيئا يعارض الإسلام. وللأسف دائما يقف القضاة مع الرجل، ونادرا ما يكون حكم القاضي عادلا. وأحد القضاة مشهور عنه انه لا يطلق إلا إذا اشترط على المرأة الموافقة على زواج متعة، فلكي تتخلص من ظلم زوجها الأول لابد لها من القبول باستغلال هذا القاضي. فالخلل في الجهاز القضائي وليس في الدين، لأن الله لم يشرع قانونا فيه ظلم للمرأة". هذه الشابة حينما كانت تعود من المدرسة أيام طفولتها، كانت تشاهد أمها منهارة من شدة الضرب، ومع ذلك لم تفلح الحملة الوطنية لإصدار قانون الأحوال الأسرية في الوصول إليها ولأمثالها من النساء صاحبات الشأن. أين الخلل إذن؟ لم يكن الخلل في نقص موازنة الحملة، ولم تكن القضية "حملة علاقات عامة" أو "حزمة توصيات" يقدمها مركز أبحاث على طريقة "ماكينزي"، فإذا طبقناها حرفيا حققنا قفزة اجتماعية كبرى إلى الأمام. المسألة أكبر وأعقد من ذلك، هناك جهاز قضائي يعاني من خلل ونقص كوادر، وهناك كلام كثير عن تجاوزات القضاة مع عدم وجود رقابة، وهناك تجاذبات سياسية ومذهبية انتهت إلى النزول في الشارع. القانون ليس ترفا بل ضرورة يفرضها العصر وكثرة مآسي ومعاناة النساء، اللاتي هن "شقائق الرجال" بنص الحديث الشريف، خصوصا انه كان مطلبا مطروحا منذ منتصف الثمانينات، ولكنه أصبح أكثر تداولا في السنوات الثلاث الاخيرة، نظرا لأجواء الانفتاح السياسي التي تعيشها البلاد. كما انه أمر لابد منه في "دولة المؤسسات" التي ندعو إليها دائما لضمان حقوق جميع المواطنين ورفع الحيف عن الناس. وإذا لم يكن له من حسنات غير الحد من سلطة القضاة المطلقة وتلاعبهم، لكان ذلك خيرا كثيرا، فضلا عن الاحتكام إلى قانون مكتوب بعيدا عن الأمزجة والأهواء. وهي أهواء يعرفها الناشطون السياسيون أكثر من غيرهم، يوم كانت تصدر أحكام السجن والإبعاد والحرمان من الوظيفة والمحاربة في الرزق... بعيدا عن سلطة القانون. تلك كانت تنال الناشطين والمعارضين وأصحاب الرأي، وهذه نالت وتنال أمهاتنا وأخواتنا وجاراتنا وبنات وطننا العزيز، حرمانا من النفقة ومن عامة الحقوق التي ضمنها لها الإسلام الحنيف، على أيدي قضاة تم تعيينهم حسب معايير الولاء والمحاصصة الطائفية... بعيدا عن الكفاءة والورع والنزاهة والالتزام بالأخلاق. ما يجري اليوم على الأرض، أشبه بحوار الطرشان الذي لن يوصل الناس إلى شيء: مقالات ومقالات مضادة، وآراء وردود، وبيانات وخطب، ولو استمر على هذا المنوال مئة عام فلن يقنع أحد برأيه أحدا. بل دخلت على الخط الإشاعات وتصفية الحسابات الشخصية والرغبة في الانتقام لدى البعض لتزيدا الجميع ابتعادا عن جوهر القضية: معاناة النساء وفساد الجهاز القضائي. لم يفكر أحد بالمرأة من حيث هي "انسان" بالدرجة الأولى، تعرضت للكثير من المظالم عبر العقود، ولما كانت تلجأ إلى قاعات المحاكم كانت بانتظارها سنوات أخرى من الشقاء. خريجة جامعة البحرين تعيش اليوم مع أمها التي تعاني من أمراض القلب والسكر وضيق التنفس، وتدخل المستشفى كل شهرين، ومثلها هناك المئات. والقانون ضرورة لابد منها، بعيدا عن "إقصاء الدين" طبعا، أو اتهام آلاف المواطنين المتحفظين على القانون حاليا بالتخلف والجهل. وكل ما نخشاه هو أن تضيع القضية بين شد هذا المجلس أو ذاك. وليس من مصلحة العلماء ولا من أولوياتهم إطلاقا الدفاع عن قضاة تدور حولهم كل هذه الإشكالات. الوقت يجري... والضحية هي هذه الطوابير الطويلة من النساء، فهل عليهن الانتظار عقودا أخرى في أروقة المحاكم
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1167 - الثلثاء 15 نوفمبر 2005م الموافق 13 شوال 1426هـ