ربما تحولت دروس مدارسنا من: ألف أرنب، ب بطة، إلى ألف إرهاب، ب. .. بن لادن، حتى يصبح لدينا كل هذا التشويش في فهم الجرائم المنكرة التي يقوم بها قتلة ويلبسونها توصيفات نقوم نحن في الغالب بالموافقة على تلك التوصيفات من دون استخدام العقل. بعد جرائم القتل العشوائية في العاصمة الأردنية استمعت إلى محطة الإذاعة البريطانية وهي تنقل من مدينة الزرقاء، منبت أبومصعب الزرقاوي، سمعت المتحدث يقول، انه لا وجود لشخص اسمه الزرقاوي، انه شخصية متخيلة، ومن قام بهذا العمل هم "الأميركان" كما يؤكد المتحدث. مثل هذا الشخص ازعم أن هناك عشرات الآلاف من الذين يعتقدون بمثل ما يعتقد. وتقوم وسائل إعلامنا، بقصد أو من دون قصد، بدعم مثل هذه الأفكار غير العقلانية إلى درجة الإيمان المطلق بها. وهناك ثنائية خبيثة في تكون العقل العربي السياسي أو في معظمه، تمهد للقبول فكريا بمثل هذه الجرائم النكراء. حقيقة الأمر أن أميركا ليست امرأة قيصر خالية من العيوب، ولكن القول انها وراء تفجيرات العاصمة الأردنية الأخيرة، والإيمان المطلق بهذا القول يحتاج منا إلى وقفة متأنية لفحص ما يدور حولنا، والبحث عن المنطلقات الفكرية التي تعتمد عليها عصابات القتل العشوائي، فهي تعتمد على عقل مفرغ من التفكير، كونه زود بخرافات سياسية رسخت بسبب قدمها، من دون أن تعالج أو تستنكر. في العراق معركة طاحنة بين السلطة العراقية الجديدة والقوات الدولية من جهة وبين عصابات قتل عشوائي من جهة أخرى، ومع ذلك نرى ونسمع ونقرأ في صحفنا وتلفزيوناتنا من يقول ان "تلك مقاومة" للأجنبي! بل ان وجد متحدث في نفسه الحيادية فرق بين مقاومة "وطنية" وبين مقاومة "غير وطنية" تستهدف العراقيين أنفسهم! مثل هذه التبريرات تقود إلى خلق وعي زائف في قطاع لا يستهان به من الجمهور العربي حتى يرى في الأعمال الإجرامية "بعض الحق" ويستسيغ بعد ذلك مثل هذه الأعمال، بل ويرحب بها. السوء أن يبادر البعض ومنهم من شاهدناه على شاشات التلفزيون أو سمعناهم في الإذاعات، ليقول ان "هذه الأعمال ليست من الإسلام، وان الضحايا هم من المسلمين"، وهو من دون وعي منه يتحدث عن مثل هذه الأعمال مع افتراض في العقل الباطن وكأنها "جزء" من الإسلام. حقيقة الأمر أن الإسلام لا يبيح قتل الأبرياء أكانوا مسلمين أو نصارى أو يهودا أو حتى لا دينيين. الإباحة مقصورة على المحاربين وبشروط يعرفها أهل الذكر، ومع رسوخ هذه الحقيقة، فلايزال البعض يلصق أعمالا مثل هذه بقرب أو بعد عن الإسلام، وهي أعمال أكمل ما توصف به أنها إجرامية لا غير. فك الارتباط في تثقيف الناس بين الإجرام وبين المقاومة وبين الإسلام، هو أول خطوة لمحاربة هذا النوع من الإجرام المدني البشع الذي يدخل إلى الناس في مسراتهم وأتراحهم ويقتلهم عنوة، هو أمر لا غير الإجرام له مسمى، ومن يقوم به مجرمون قتلة يستحقون العقاب المنصوص عليه في قانون العقوبات، لا أكثر ولا أقل. تفسير ما يقوم به هؤلاء القوم في أكثر الأحوال نسبية هي أعمال سياسية عمياء لا هدف منها غير القتل وترويع الآمنين، وكلما أصبح لدينا توافق على هذا الأمر كلما قوبلت مثل هذه الأعمال بردة فعل شعبية سلبية تستحقها. يستوقف المراقب تحليل المواطن الأردني من مدينة الزرقاء الذي يدخل "أميركا" في القتل العشوائي في فنادق العاصمة الأردنية! كان تصريحه ذاك قبل الإعلان عن وفاة مواطنين أميركيين. ويتعجب العاقل أي تثقيف سياسي حصل عليه مثل هذا المواطن ليخلط الأمر بهذه الصورة التي ينكرها العقل السليم. ولو كان هذا الخلط فرديا لهان الأمر، ولكنه موصول مع عدد من قادة الرأي العرب الذين هم على استعداد لتحميل الآخر كل الترهات، بما فيها القتل العشوائي للمواطنين الآمنين في الفنادق والشوارع، ويرفضون الاعتراف بأن القتل سمة من سمات السياسة العربية السائدة منذ زمن. ولعل المراقب أيضا يضع اللوم على بعض ما يذاع ويكتب ويشاهد في فضائياتنا العربية من بعض "الدعاة الجدد" الذين يخلطون للعامة السم في الدسم، فهم يصورون معالجة مشاهد القصور الواسعة الانتشار في مجتمعاتنا، ليس بما تستحق أن تعالج به، أي بحلول عقلانية مناسبة للعصر، ولكن بعودة إلى عهد متخيل "صاف" من المنقصات، تسوده العدالة والخلق الرفيع. وهي قراءة غير حقيقية لا تمت إلى الواقع حين ذاك بصلة، ولكن يتلقفها العامة وحتى بعض الخاصة، على أنها حقيقة يمكن العودة إليها. فيزداد نفور الشباب من واقع بينه وبين المتخيل هوة ضخمة، ويسهل التغرير بهم لردم هذه الهوة بالقفز إلى المجهول، فيدخلون بسهولة ويسر إلى أبواب "الإجرام" المنظم من مداخل يحبونها ومزينة لهم، بسبب هذا الزخم من التثقيف الخاطئ، وأن ما يفعلونه هو المدخل الصحيح لتغيير مشاهد القصور الملحوظة في المجتمع. انها دائرة جهنمية تقود إلى تفخيخ عقل المتلقي بمجموعة من المسلمات والمواعظ ينقاد بعدها الشاب إلى حتفه من دون سؤال. فقدان التحليل الصحيح يضلل المتابع من معرفة المدخل الصحيح لمعالجة الأمر الذي نحن بصدده، وهو القتل الجماعي، وتقصي أهداف سهلة ميسورة كالفنادق والحافلات وأماكن التجمع. المشهد تقريبا واحد، وسواء في ضواحي بغداد أو في فنادق عمان أو أطراف الدار البيضاء، أو حتى وسائل المواصلات في العاصمة البريطانية. فقدان التحليل أو تقديم تحليل سريع للظاهرة "القتل الإجرامي" يقود إلى المعالجة الخاطئة، فقد قيل بعد تفجيرات لندن في الصيف الماضي أن السبب هو اشتراك بريطانيا على الحرب في العراق، وقبل هذا الرأي على نطاق واسع، سرعان ما كذبته أعمال الاضطراب في ضواحي باريس، فهي لم تشترك في الحرب، بل على العكس قاومتها! العمليات الإجرامية في عمان، وفي بغداد وفي عواصم عدة من العالم العربي، مازالت ردة الفعل عليها آنية، وتفسر خلفياتها بتفاسير قريبة إلى السذاجة. بل ان بعض ردات الفعل تقود إلى تفاقم الظاهرة أكثر من أن تقود إلى اضمحلالها. إن الظاهرة قابعة في استبدال الألف والباء من أرنب وبطة إلى إرهاب وبن لادن، فهل نعيد مسيرة التثقيف العام إلى مكانها الصحيح، بالاعتراف أن خللا ما أصاب تثقيف المجتمع العربي ومازال يفعل، وأن طريقا أفضل للتعبير السياسي يمكن فتحه لتجنب هذا القتل الأعمى للبشر
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1166 - الإثنين 14 نوفمبر 2005م الموافق 12 شوال 1426هـ