العدد 1165 - الأحد 13 نوفمبر 2005م الموافق 11 شوال 1426هـ

الدولة الريعية في الخليج والبحرين

جعفر العمران comments [at] alwasatnews.com

-

مع استثناءات قليلة، تبدو البلدان الخليجية كأنها جبال راسخة لا تؤثر فيها رياح التبدلات والتغيرات التي تعصف بالعالم منذ زمن. فمنذ اكتشاف النفط في النصف الأول من القرن العشرين ومجتمعات الخليج تغط في سبات سياسي عميق لا يحركه شيء، هذا السبات أوجد من يقول ان الدول الخليجية "حكومات بلا شعوب" نظرا إلى الحضور الطاغي للحكومات وعدم قدرة المجتمعات الخليجية، المتقلص دورها، على إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي أو نمط توزيع القوة والثروة وذلك إجمالا. هذا "الحكم" يجد له أساسا علميا قويا فيما يعرف في الأدبيات السياسية بنظرية "مدخل الدولة الريعية"، وهي النظرية التي قدمت مدخلا مناسبا لفهم كيفية سير اللعبة السياسية داخل الدول الخليجية، ونمط توزيع القوة والسلطة ولماذا يغلب الركود السياسي العريض على مجتمعات الخليج، ويتقزم تأثيرها على الدولة وعملية صنع القرار. وحتى مع من يقول حاليا بـ "الدولة ما بعد الريعية" في الخليج بعد "التغيرات" التي تشهدها الدول الخليجية، ووجود عدة مآخذ على نظرية الدولة الريعية إلا أنها عموما لاتزال قادرة على تقديم صورة تقريبية لطبيعة النظام الاقتصادي/ السياسي في بلدان الخليج التي تعتمد على النفط بشكل شبه كلي "ونقصد هنا دول مجلس التعاون الخليجي".

الدولة الريعية في الخليج

الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد الذي يعتمد في مدخوله المادي على بيع سلعة غير انتاجية في الأسواق الخارجية كالنفط والذهب والنحاس، وهذا المدخول المادي يسمى "ريعا"، فلا يستند الاقتصاد إلى قواعد أو عمليات انتاجية داخلية كالصناعة والتكنولوجيا ولكن يعتمد على الريع المتحصل من السوق الخارجية، فمثلا الثمن المتحصل من مرور السفن في قناة السويس يعد "ريعا". وبالنظر إلى الاقتصادات الخليجية نجدها نموذجا مثاليا للاقتصادات الريعية، فهي تعتمد بشكل جوهري على الريع المتحصل من بيع النفط الخام في السوق العالمية للنفط، وهو ريع هائل في حجمه ونتائجه، فمنذ اكتشاف النفط في الثلاثينات تبدل نظام الإنتاج والنظام الاقتصادي للبلدان الخليجية كلية وانتقل من حالته الأولية التي تعتمد على صيد اللؤلؤ والتجارة إلى اقتصاد يعتمد على متحصلات بيع النفط بشكل شبه كامل. ونظرا إلى الأهمية القصوى للنفط كوقود لا غنى عنه، تتحصل البلدان الخليجية على مبالغ مالية ضخمة "ريع" من جراء بيعه في الخارج، وهذه الطبيعة الاقتصادية الريعية كانت لها نتائج سياسية بالغة الأهمية، إذ أصبحت الدولة نفسها "دولة ريعية". فالدولة الخليجية هي التي تحتكر عملية بيع النفط وتحصيل ثمنه "الريع" وتوزيعه بعد ذلك، ونظرا إلى هذا الاحتكار الذي تمارسه الدولة فإنها تتمتع باستقلالية اقتصادية هائلة في مقابل الشعب وقوى المجتمع المختلفة، فلا تحتاج إلى قوى المجتمع لتوليد الدخل القومي، إذ تتحصل عليه من بيع النفط الخام الموجود في باطن الأرض والذي تقوم باستخراجه باستخدام تكنولوجيا متطورة من دون الحاجة إلى مجهودات مواطنيها. ليس هذا فقط، ولكن الدولة في الخليج تستورد عمالة خارجية رخيصة بأعداد هائلة وبرواتب ضعيفة، وهذه العمالة المستوردة لا تطالب بأية حقوق سياسية، بل تعمل في أقسى ظروف العمل حتى تلك الأقرب للعبودية... وهذا يريح الدولة من مشكلات سياسية كثيرة قد يسببها مواطنوها، وهذا يعمق الاستقلالية الاقتصادية الاستثنائية التي تتمتع بها الدولة الخليجية في مقابل المجتمع. هذا الاستقلال الهائل يؤدي إلى أن الدولة في الخليج لا تفرض ضرائب على مجتمعها، وهذا غير موجود في أي مكان آخر في العالم، بل هي التي تغدق الأموال على المجتمع، ولذلك يسميه أحد الباحثين "حازم الببلاوي": "المجتمع الريعي" لأنه لا يقوم بوظيفة إنتاجية حقيقية، لكنه يعتمد بشكل محوري على الريع الذي تحصل عليه من الدولة وعلى العمالة الرخيصة التي يجلبها من الخارج. نتيجة هذا الاستقلال الفريد للدولة فإنها لا تشعر بضغوط حقيقية من جانب شعبها لإجبارها على إعادة توزيع مصادر القوة أو مقاسمة الحكم مع المواطنين، عوضا عن ذلك "تقايض" المجتمع بأن تنفق عليه وتوفر له مصادر الرفاهية والعيش الكريم مقابل أن يصمت ويبتعد عن السياسة. ولهذا تقوم الدولة الخليجية بإجراءات من شأنها توفير الرفاهية والراحة المعيشية والاقتصادية لمواطنيها من خلال إنفاق جزء من ريع النفط عليهم وذلك كبرامج الإنفاق العام الهائلة، الإعفاء من الضرائب، تحديث البنية التحتية، تحسين الخدمات العامة، المكرمات، الهبات، إسقاط الديون، زيادة الرواتب، إعانات الزواج، التوظيف العشوائي في الجهاز الإداري والبيروقراطي للدولة، التعليم المجاني... إلخ، ولذلك، فإن المستوى المعيشي لمواطني الخليج مرتفع بشكل لافت من دون الاستناد بالضرورة إلى عمل إنتاجي حقيقي من جانبهم. بهذه التكتيكات والآليات نجحت الدولة الخليجية في إخضاع المجتمع والسيطرة عليه وإبعاده عن السياسة، فاتسمت العلاقة بين السلطة والمجتمع بالجمود والركود الطويل، وهذا لا يعني بالضرورة عدم رضا الغالبية المحكومة عن هذه المعادلة، بل استند ذلك إلى رضا المجتمع النسبي "أو قطاعات عريضة منه" طالما توافرت له مختلف سبل الرفاهية والحياة الكريمة... "حياة الكشخة". لهذا، فإن المجتمع المدني في الخليج ليس في تناقض جوهري مع الدولة، بل مندمج فيها وجزء منها وليس له وجود مستقل ومنفصل، بل يخضع لآليات الإخضاع والسيطرة التي أثبتت نجاحا لافتا في الحفاظ على الوضع القائم كما هو عقودا طويلة. ولذلك تظهر دول الخليج ومجتمعاته عصية على التغيير، كأنها ليست جزءا من العالم الخارجي الذي تضربه التغييرات والتبدلات والتحولات السياسية.

الدولة الريعية في البحرين

لا ينطبق التحليل السابق على كل الدول الخليجية بالتساوي، فعلى رغم وجود متشابهات أساسية فيما يتعلق ببنية النظم السياسية في كل البلدان الخليجية فإن هناك اختلافات لا تقل أهمية فيما يتعلق بطبيعة العملية السياسية. وبالنسبة إلى البحرين يمكننا القول انها حال خاصة إلى حد ما، حتى مقارنة بالكويت التي يضعها كثير من الباحثين في تصنيف واحد مع البحرين فيما يتعلق بتشابه الحراك السياسي الداخلي. على رغم أن الاقتصاد البحريني يعتمد على النفط بشكل محوري أي أنه اقتصاد ريعي، فأكثر من 70 في المئة من إيرادات الموازنة تأتي من النفط فإن آليات الدولة الريعية في البحرين "معطلة" عن إحداث النتائج السياسية الموجودة في دول الخليج المجاورة وذلك إجمالا، وهذا يتمثل في أن البحرين تشهد صراعا سياسيا يختلف كثيرا عن ذلك الموجود في الكويت، وطبعا عن الموجود في باقي دول مجلس التعاون الخليجي، بوصف تلك الدول لا تعرف الصراع السياسي بالمعنى المتعارف عليه، أي الصراع على الحكم واتخاذ القرار وذلك بشكل عام. لم يؤد النفط إلى استقرار المعادلة السياسية في البحرين، كما سبق شرحه بالنسبة إلى باقي الدول الخليجية. بل على العكس من ذلك، تشهد البحرين صراعا سياسيا لافتا، وهذا يختلف تماما عما يجري داخل الدولة الريعية في الخليج والتي يسودها "الانسجام والهدوء" السياسي مع المجتمع استنادا إلى آليات الإخضاع والسيطرة، كما وضحنا سابقا، ولكن البحرين تشهد تنازعا سياسيا حادا يستهدف بنية العملية السياسية برمتها. التوتر وفقدان الثقة هما السمتان الحاكمتان للعلاقة بين الدولة والمعارضة عموما، فباستثناء "لحظات تاريخية" قليلة ساد فيها توافق ملحوظ بين الطرفين ولاسيما لحظة التصويت على الميثاق، فإن اتجاه العلاقة لفترة تزيد على ربع قرن كان صراعيا للدرجة التي وصل فيها إلى العنف السياسي الدامي فيما عرف بحوادث التسعينات، وهي الحوادث التي أشارت إلى أن شرعية الدولة في مأزق حقيقي. وحتى بعدما أفرز المشروع الإصلاحي ثمرات ثمينة وملفتة إلا أن التوتر عاد ليطبع العلاقة ويدمغها بطابعه التصادمي الغالب. واللافت أن الصراع بين الدولة والمعارضة يشمل محاور أساسية من شأنها تغيير الأوضاع السياسية، ونمط توزيع القوة والثروة، وعلاقات التحكم والسيطرة، وبنية الدولة ذاتها، ولهذا يمكننا أن نجازف ونقول ان البحرين لم تعرف نموذج "الدولة الريعية" في شكله الخليجي الذي سبق شرحه، وانها استثناء في المنطقة الخليجية. حتى مقارنة بالكويت، والأمر لا يعود كما قد يعتقد البعض إلى فقر الموارد الاقتصادية في البحرين أو إلى عدم كفايتها، بل هناك تركيبة خاصة للنظام السياسي/ الاجتماعي تضفي على البحرين هذه الخصوصية، وعلى رغم توافر الاقتصاد الريعي وآليات الإخضاع والسيطرة فإنها غير قادرة على إنتاج النتائج المشابهة في بلدان الخليج المجاورة إجمالا. أما أسباب هذا "التفرد البحريني" وطبيعة النظام السياسي/ الاجتماعي، والآليات الحاكمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع فهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه

العدد 1165 - الأحد 13 نوفمبر 2005م الموافق 11 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً