منذ قرنين والبلدان العربية تموج بمحاولات إصلاحية فكرية وسياسية متتابعة. في البداية كانت المحاولات تنصب على الإصلاح الديني وتجديده. ولقد تمثلت تلك المحاولات في كتابات مصلحين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والطهطاوي وعلي عبدالرزاق وغيرهم وفي حركات إصلاحية دينية من مثل الوهابية في جزيرة العرب والمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا. لكن مع مرور الوقت، وكنتيجة للاحتكاك المباشر مع أوروبا، طرحت محاولات إصلاحية فكرية وسياسية عدة تهدف إلى تحديث وعصرنة المجتمعات العربية. وتمثل كل ذلك في مجموعة كبيرة من الكتاب الليبراليين وفي قيام أحزاب قومية واشتراكية وليبرالية وفي تفجر ثورات عدة من أبرزها وأعظمها تأثيرا الثورة الناصرية. والواقع أن تلك المحاولات الإصلاحية الكثيرة والمتنوعة قد شملت جميع أجزاء الوطن العربي. إذن فمحاولات الإصلاح الحالية ليست إلا تتمة لما سبقها، وهي ستستمر لسنين طويلة مقبلة حتى تحسم القضايا المجتمعية العربية الكبرى التي استدعت ذلك الجهد الإصلاحي الهائل الذي ميز تاريخ العرب منذ بدايات القرن التاسع عشر. ومن هنا فإننا نرفض أن تسرق ثمرة ذلك النضال العربي الذاتي الطويل المرير من قبل الأوساط الامبريالية الأميركية - الصهيونية بادعائها أنها محركة مكنة الإصلاح الحالية، وهو إدعاء يهدف إلى إضعاف ثقة الأمة بنفسها والحط من قدرتها الذاتية على النهوض والتجدد من جهة وإلى ارتهان إنجازاتها المستقبلية في يد الغير من جهة أخرى. ان كلمة مشروعات تشير إلى أكثر من مشروع، وكلمة منطقة تشير إلى بقعة جغرافية تمتد عبر الوطن العربي كله. والدخول في تفاصيل قائمة المحاولات الإصلاحية المتعددة في كل بلد عربي ليس هو المطلوب عرضه في مثل هذه المناسبة. وعلى أي حال فإن تلك التفاصيل تعالج يوميا على صفحات الصحف والمجلات وعلى شاشات التلفزيونات. وطبعا فإن مدى جدية تلك المحاولات ومدى نصيبها من الفشل أو التعثر أو النجاح ومدى تأثيرها على مجمل الساحة العربية يختلف من بلد عربي إلى آخر. وعليه فالأفضل هو أن ننظر إلى موضوع الإصلاح العربي نظرة شمولية عامة وأن نركز على جوانبه وملابساته المشتركة المفصلية. إن نظرة فاحصة لسيناريو مشروعات الإصلاحات العربية الحالية تقودنا إلى الملاحظات الآتية: أولا: لم يعد موضوع الإصلاح في البلدان العربية هما محليا، ولا حتى إقليميا قوميا، وإنما أصبح موضوعا معولما بالغ التعقيد والتشابك، وذلك من خلال ربطه بحوادث وظاهرات دولية لا تمت إليه بصلة. فالهوس الغربي، وخصوصا الأميركي، بظاهرة الإرهاب الدولي، وترويج المقولة الدعائية بأن سبب ذلك الإرهاب ناتج عن تخلف ذاتي في الثقافة العربية والدين الإسلامي قلب موضوع الإصلاح العربي الحالي من كونه جزءا من سيرورة تاريخية لها شروطها وطبيعتها وخصوصيتها ومداها الزمني الضروري إلى حال طوارئ مستعجلة لا يمكن التعامل معها إلا في غرف الإنعاش وذلك باستعمال الوسائل المنعشة المؤقتة في العلاج. ومن طبيعة مثل ذلك العلاج أنه لا يذهب إلى أعماق أسباب المرض ولا إلى العلاج الكلي الشامل البعيد المدى وإنما يكتفي بالسطحي والمؤقت ويؤجل المواجهة الحقيقية مع الداء. ومن هنا فإن إمكانات التخبط وارتكاب الأخطاء الفادحة ومعالجة الظواهر بدلا من العلل واختزال الزمن بشكل قسري ستكون كبيرة بل وغالبة. إن الربط الجنوني بين حالات أمنية محلية في البلدان الغربية نتيجة لتعرضها لعنف تمارسه أقلية صغيرة وبين تاريخ وثقافة ودين المنطقة العربية، فقط لأن ممارسي ذلك العنف ينتمون الى هذه المنطقة، هو نوع من الظلم الشنيع لإبداع العرب والمسلمين الحضاري والتسطيح المخل لظاهرة الإرهاب نفسها. إن اعتبار الإصلاح العربي كمدخل لحل إشكال الإرهاب الدولي يمثل خنقا وتزويرا فكريا وسياسيا لمسيرة الإصلاح وسيحرفها إلى دروب غامضة خطرة. ثانيا: وكوجه آخر من السيناريو السابق فإن تعامل الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، مع العوامل السياسية المزمنة المتأزمة في بلاد العرب، والتي كانت إلى حد ما مصدر غضب دائم في النفس العربية والتي ساعدت على انخراط البعض في عمليات العنف العبثي التي نراها أمامنا... تعامل الغرب هذا هو تعامل سيئد كل محاولات الإصلاح الكبرى. ولعل النظر إلى التعامل الغربي مع القضية الفلسطينية عبر خمسين سنة سيبين ما نعنيه. إن الولايات المتحدة وهي اللاعب الأول في التعامل مع هذه القضية، لا تريد، أولا تستطيع، أن تعي المعنى الحقيقي لمأساة الشعب الفلسطيني المزمنة. وحتى لو وضعنا جانبا الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني من جراء تهجيره من أرضه من قبل جحافل يهودية صهيونية تركت أوطانها التي عاشت فيها طيلة قرون لتستولي على أرض تدعي ملكيتها لأسباب أسطورية دينية وتنتهي بتهجير قسري لمعظم ساكنيها الأصليين، تارة بالترغيب وتارة بالإرهاب وبدعم لا محدود من قبل الكثير من دول الغرب... حتى لو وضعنا ذلك جنبا وواجهنا عار المرحلة الحالية للقضية الفلسطينية فإننا أمام مأساة جديدة أخرى. فالقيادة الفلسطينية التي قبلت مضطرة بإقامة دولة لشعبها على عشرين في المئة من أرضهم الأصلية اصطدمت بتعامل أميركي استفزازي مثير للحنق والكراهية. فأميركا التي يعتمد الكيان الصهيوني عليها اعتمادا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، تقف عاجزة عن إخراج القضية من حلقات التحايل والتسويف والتراجعات ونسف الاتفاقات "الإسرائيلية" التي ترمي "إسرائيل" من ورائها إلى الاستيلاء على نصف العشرين في المئة المتبقية للفلسطينيين لتظفر في النهاية بتسعين في المئة من أرض فلسطين الأصلية. ولا يقتصر الإسناد الأميركي على الدعم الكبير الذي ذكرنا بل يتعداه إلى ممارسة ضغط دائم إلى السلطة الفلسطينية لقبول المزيد من التنازلات. ويبلغ الظلم الأميركي مداه عندما يصنف المقاومة الفلسطينية للاحتلال وللإبادة ولقضم الأراضي وبناء المزيد من المستوطنات كنوع الإرهاب. وتضع أميركا إمكاناتها الهائلة لمحاصرة تلك المقاومة في كل مكان. وفي الوقت نفسه توجد أميركا كل الأعذار لتبرير الإرهاب الصهيوني اليومي، إرهاب الدولة المنظم المؤدلج اللابس طاقية الدين والمتمثل في قتل الألوف من الفلسطينيين المدنيين وهدم بيوتهم والتمهيد لطردهم مما بقي من فتات الأرض التي يعيشون عليها اليوم في ظل الإذلال والإفقار وقتل الأمل الإنساني في نفوسهم. كان لابد من ذكر كل تلك التفاصيل لإبراز بشاعة الجريمة التي تمارسها "إسرائيل" وأميركا بشكل لا إنساني همجي، فكيف ينتظر الغرب أن تتوقف مأساة الموت العبثي في بلادنا وفي بلادهم في ظل أجواء نفسية وذهنية تؤججها تلك الجرائم وتلك المواقف الأميركية التي تغطيها ولا تسمح قط بإيقافها أو بالتصدي لمرتكبيها من قبل أي محفل وأي كان. فإذا أضيف إلى ذلك احتلال العراق اللاشرعي تحت ذرائع يعرف القاصي والداني أنها كانت كاذبة وملفقة وممارسات التجويع وقصف المدن والقرى المقاومة في ذلك البلد وإثارة النعرات الطائفية والعرقية تمهيدا لتجزأته، وإذا أضيف البناء المكثف للوجود العسكري في الخليج وفي كثير من الأرض العربية وتدخل السفارات الأميركية والغربية اليومي في كل شأن عربي فإن الصورة تتضح من أن الولايات المتحدة ومعها إلى حد كبير الغرب، يجعلون المنطقة غير مستقرة وقابلة للانفجار وبالتالي غير قادرة للبدء بعملية الإصلاح الحضاري الحقيقي. ثالثا: وتكتمل صورة الدور السلبي الذي لعبه الغرب الاستعماري تجاه مسيرة الإصلاح والنهوض العربي عبر القرنين الماضيين عندما نستنطق بعضا من حوادث التاريخ. وسنضع جانبا الحملات الصليبية الكثيرة المتكررة التي جندتها أوروبا تحت راية كنسية غاضبة عبر القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والتي ساهمت إلى حد كبير في إدخال المنطقة العربية، التي كانت مركزا لإشعاع حضاري بالغ الغنى والإمكانات، في عصر ركود وظلام داما أكثر من سبعة قرون. لقد تمثلت الهجمة الأوروبية الحديثة الأولى لوأد النهضة العربية الرافعة لشعار الإصلاح والتحديث في إفشال أول مشروع نهضوي حاول القيام به والي مصر، محمد علي باشا، في بدايات القرن التاسع عشر. فما أن قام محمد علي بالبدء في بناء جيش حديث قوي وصناعة عسكرية ومدنية حديثة وزراعة منتجه ومؤسسات تعليمية عصرية وبالتطلع نحو توحيد مصر مع مناطق عربية أخرى في الشام والجزيرة العربية من أجل بناء دولة عربية قوية مستقلة عن التبعية العثمانية... ما ان فعل محمد علي ذلك حتى تدخل الغرب ليضع حدا لحركته تلك في مهدها وليضرب مشروعاته الاقتصادية بتطبيق معاهدة .184 وتمثلت الهجمة الأوروبية الثانية عندما قامت الثورة العربية بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة بالدعوة إلى مشروع نهضوي آخر يهدف إلى استقلال ووحدة العرب في المشرق العربي ويحمل توجهات إصلاحية وتحديثية. عند ذاك تدخل الغرب للمرة الثانية فأفشل المحاولة وأتبعها بتجزئة المنطقة من خلال معاهدة سايس بيكوا الفرنسية الإنجليزية الشهيرة ليدخل العرب في عصر الهيمنة الاستعمارية التي وجدت في كل أرض العرب حتى بعد منتصف القرن الماضي. وما أن بدأ العرب بالحصول على استقلالهم حتى ووجهوا بهجمة غربية جديدة زرعت الوجود الصهيوني في فلسطين لتكون "إسرائيل" قلعة غربية استعمارية متقدمة تفصل الشرق العربي عن مغربه جغرافيا وتمنع أية وحدة عربية في المستقبل وتفرض حدودا وسقفا لأية محاولة نهضوية عربية وخصوصا العلمية والتكنولوجية منها. ومنذ ذلك اليوم، وعبر أكثر من نصف قرن، انشغل العرب بذلك المشروع الاستيطاني التوسعي. وبدلا من أن تتركز جهودهم في بناء نهضة ذاتية تدخلهم مع الآخرين في العصر الحديث وجدوا ثرواتهم ومدخراتهم وجهودهم منصبة لحماية أنفسهم من هذا الخطر السرطاني الجديد. ولقد صح ما توقعه وظنه العرب. فما ان قامت الثورة الناصرية في مصر ورفعت شعارات نهضة عربية شاملة ترمي إلى توحيدهم وتحديثهم وإخراجهم من تحت الهيمنة الغربية الاقتصادية والعسكرية والسياسية حتى تحالف الغرب، ممثلا في إنجلترا وفرنسا، مع الكيان "الإسرائيلي
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 1165 - الأحد 13 نوفمبر 2005م الموافق 11 شوال 1426هـ