هناك حقائق ومسلمات، إن صح التعبير، لابد من الاعتراف بها. ومثلما أكدها جاليليو "اللفظ بالجيم المصرية" أثناء محاكمته، حين أرغم قسرا على التنازل عن حقيقة أن الأرض مكورة وتدور، قال لهم: "كما تشاءون"، إنقاذا لرقبته من المقصلة، وتم العفو عنه، إلا أنه في نهاية المحكمة جلجلت كلمته الشهيرة: "... ومع ذلك تدور!". في الفكر الحر، كما في السياسة، هناك أشياء خفية أو جلية في وضح النهار، تتسابق في تقديم قرابين من "اللحم الحي" بمعارضتها لظلام يجمع الناس على أنه نور. هذه القرابين تشكل مقدمات معلنة أو ضمنية للقادم الجديد في الفكر والسياسة والتأثير على السائد. وساحتنا البحرينية ليست استثناء، فهي حبلى بالحراك الفكري والسياسي على أكثر من صعيد، وذات رؤى مختلفة، ربما نضجت في المؤتمر الموازي لمنتدى المستقبل الذي عقد أخيرا، أو تم تسخينها على نار هادئة من قبل واليوم في الندوات والمسيرات بشأن الأراضي التي وضعت اليد عليها خارج القانون، أو ما جرى في مسيرة الحقوق والكرامة والمحرومين والعائدين وضحايا التعذيب والعاطلين، أو مسيرة "الإصلاح الدستوري أولا"، فيما ظهرت أصوات مؤثرة على الساحة لتطالب بـ "دستور جديد" وبديل عن دستوري ،2002 و1973 يلبي طموح الشعب وتطلعاته، من خلال الندوات والمسيرات السلمية، والعرائض المطلبية وما إلى ذلك من أساليب الكفاح السياسي. تعالوا نتأمل حجم القضايا لدولة صغيرة مثل البحرين، وكثرة التفسيرات والمطالبات بالتغيير، ومن أي مشكلة نبدأ بالحل؟! أسئلة كثيرة، أليس كذلك؟! أسئلة بحجم الأزمات التي بالتأكيد لم تنزل علينا من السماء هكذا... ويبدو أن عدم حلحلة هذه الأزمات وإيجاد حلول لها، سيرفع من سقف المطالب، وقد بدأت المؤشرات على ذلك، مثل تداول مصطلح المبدأ الديمقراطي: "التداول السلمي للسلطة" عن طريق صناديق الاقتراع على نطاق واسع في برامج التنظيمات السياسية، وفي الخطب والندوات السياسية والتنويرية. هذه الأمور ربما لاتزال شعارات عندنا، لكنها في الديمقراطيات العريقة مسلمات "و"الديمقراطيات العريقة" مصطلح جاء به الميثاق الوطني، وليس من عندنا". وفي الديمقراطيات العريقة والممالك الدستورية، لا تتدخل الأسر المالكة في الشئون السياسية، ولكن التقسيم عندنا مناصفة بين الشعب والأسر الحاكمة، إضافة إلى أن وزارات السيادة لا تخرج عن يد الأسر المالكة، على رغم أنه لا يوجد نص دستوري واحد يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد. لنتساءل للمرة الألف: ما الأسباب التي أوصلتنا لهذه المواصيل؟ هل يحق لنا الحديث عن الحكم الصالح واستحقاقاته، ويعتبر البعض أننا نعيش في بحبوحته، أم أننا للتو بدأنا ننتهج مفرداته الجديدة بصعوبة، مثلما ننتهج مفردة "العدالة الانتقالية" من دون أن نخطو خطوة واحدة نحوها للمصالحة الوطنية الحقيقية؟! المشروع الإصلاحي في تجلياته أتاح لنا أن نقول ما نشاء وقتما نشاء، وهذه سمة إيجابية، لكنها لا تكفي. وينطبق الانفراج السياسي الذي يتيح لنا الكلام، مثل مقولة ماركس الشهيرة التي قالها عن الفلاسفة: "إن جل ما قام به الفلاسفة هو أنهم فسروا العالم؛ إنما المطلوب تغييره!". و"التغيير" كلمة ساحرة تسحر العقول والقلوب معا. وما يجري في البحرين حقا، هو مادة دسمة للتفكير. هناك فساد مرعب، وهناك استيلاء غير مشروع على الأراضي والجزر، وهناك بطالة وفقر وجوع وحرمان كما في "جمهورية جعيتر" الواقعة بين "المخارقة والسلمانية"... تعرفونها طبعا؟ هل أحد من المسئولين زار هذه "الجمهورية" الفتية وشاهد حجم المأساة لمواطنين يتسكعون في شوارعها الضيقة، وينامون على "دججها"، ويستجدون لقمة العيش من المارة بثياب رثة، من دون اهتمام بالهندام والمظهر، وما إلى ذلك من مظاهر العيش غير الكريم في أدنى مستوياته. زورا هذه الجمهورية "جعيتر". إنها هناك قريبة منكم، ثم احكموا على الفوارق الطبقية، و"بحبوحة الرفاهية" التي يعيشها شعبنا، كما يعزف علينا صباح مساء الزمارون في "دولة القانون والمؤسسات". وأخيرا، دعونا نمعن في تساؤل رئيس جمعية العمل الإسلامي الشيخ محمد علي المحفوظ الجمعة الماضي في خطبة نارية عن: "ما هي خريطة الطريق بالنسبة إلينا؟ ماذا نريد حتى لا تتجاذبنا القضايا المختلفة وتصبح هناك صراعات داخلية"؟ أسئلة مشروعة، وهي مشروع رؤية أيضا، وتحتاج إلى إجابات شافية تنقلنا إلى السكة الصحيحة لرفض السائد المدمر لكل شيء، بما فيها النفوس... ونقولها كما قالها "جاليليو": ومع ذلك إنها تدور، وهي ليست مسطحة. البعض لايزال يعتبر الأرض مسطحة، هذا شأنه. وهناك من ماتوا في الألفية الثالثة واعتقادهم لا يخرج من هذه الدائرة، وهذا التفكير المتخلف، وهؤلاء وشأنهم، وكذلك لايزال أناس أحياء يرزقون يعتقدون بهذه الفرضية المرفوضة من القرون الوسطى وكاد أن يدفع جاليليو رقبته ثمنا لذلك، ومع ذلك إنها تدور، وستظل تدور! أما المتمسكون بالمثل الرجعي والتيئيسي: "لا جديد تحت الشمس"، فلن يحصدوا إلا الخيبة، لأنه في كل دقيقة هناك جديد، بل في كل ثانية... فلننتظر لنرى
العدد 1164 - السبت 12 نوفمبر 2005م الموافق 10 شوال 1426هـ