من الأمور التي لن نجد لها جوابا يقينيا هو عدد المشاركين في مسيرة يوم الاربعاء الماضي. ففي الوقت الذي ذهب فيه طرف حكومي "رفض ذكر اسمه" إلى 14 ألفا، فإن هناك من يصل بالرقم إلى 120 ألفا "أي عشرين في المئة من سكان البحرين"، بينما رجحت مصادر أخرى أن يكون الرقم في حدود 60 ألفا "أي عشرة في المئة من السكان"، اجتمعوا خلال ساعتين في إحدى أهم مناطق البحرين التجارية لإسماع "رأيهم" إلى من يهمه الأمر في قضية قانون الأحوال الشخصية. مثل هذا الحشد غير المشهود في تاريخ البحرين على مدى الخمسة عشر عاما الماضية، لا يمكن إغفاله أو التقليل من شأنه، مهما اختلفت آراؤنا بشأن إصدار القانون، تأييدا أو معارضة "او بالأحرى تحفضا". بل يكاد الأمر أن يكون امتحانا حقيقيا لممارستنا الديمقراطية من أوسع الأبواب. لا يكفي أن تنتهي ما يسمى بـ "المرحلة الإعلامية" من الحملة الوطنية لتقنين الأحكام الأسرية، فنقنع أنفسنا بأننا حققنا الهدف المعلن عنه، وهو "تعريف المواطنين بتقنين الأحكام الأسرية وضرورته المجتمعية"، طبقا لتوصيات هذا المركز أو ذاك. كما لا يكفي أن نقنع أنفسنا بأننا على صواب، وأن الآخرين على باطل، ليكون الأمر كذلك، فأمور الحياة أكثر تعقيدا من أن تؤخذ بالتمنيات! على أن أسوأ ما يمكن أن نقع فيه أننا أمام مفاجأة من مثل مسيرة الأربعاء الماضي، أن نفقد عقولنا، ونتورط في إطلاق أحكام تضحك الناس علينا، وخصوصا أن البحرين تستضيف هذه الأيام ضيوفا من مختلف البلدان، جاءوا للمشاركة في منتدى المستقبل. فمن الإشكال أن يقرأ الضيوف تغطيات صحافية بعيدة عن المهنية، أو مقالات تنم عن اضطراب في إطلاق الأحكام. فماذا يعني دمغ مسيرة شعبية "مدنية" خالصة بأنها "تطرف إرهابي إسلامي ضد الأسرة"، أو أن "الحملة بلغت أوج طيشها في نبش ثقافة الجهل والتخلف"؟ أين هذه الكلمات من اللغة المؤدبة؟ بل ماذا سيقول الضيوف حين يقرأون ما ذهب إليه خيال أحدهم من أن هذا العدد الكبير من المشاركات ما هن إلا رجال تخفين وراء ملابس النساء! الإشكال الأكبر في هذه العقليات أنها لم تسمع في حياتها شيئا اسمه الرأي الآخر. ولم تتعود طوال ثلاثين عاما على التفكير بوجود أطراف أخرى في المجتمع، فالقول هو ما تقوله السلطة، والقرار الصائب هو الذي يأتي "من فوق"، و... إذا قالت حذام فصدقوها فنعم الرأي ما قالت حذام! هؤلاء "التابعون"، لا يصدقون الواقع الجديد، إذ يوجد "رأي عام"، يتشكل في ظل أجواء منفتحة، بعد التخلص من أغلال فترة قانون "أمن الدولة"، وهناك مجتمع أهلي متحرك ومؤسسات مدنية وجمعيات سياسية متمسكة بالاصلاح إلى آخر المدى لأنه خيارها الاستراتيجي، وبالتالي لم تعد "رغبات" الدولة وأهواؤها تتحول إلى قوانين مفروضة على رغم أنوف الجميع. في تلك الفترة كان ينظر إلى الناس على أساس نظرية "القطيع"، المواطن فيها لا تزيد قيمته على قيمة البقرة، وأحيانا من دون قيمة أصلا حين يقتل في الشارع، وهي الفكرة التي مازالت تتشبث بها بقايا تلك الحقبة الإقطاعية المتخلفة. ففي الوقت الذي تتوجه أنظار العالم إلى هذا البلد في استضافته "منتدى المستقبل"، يتفسخ خطابها إلى درجة تقرب من السعار. هذا المجتمع الذي نفخر بحيويته السياسية، وحراكه الاجتماعي، وهذه الساحة الوطنية الجامحة بالرغبة في التطوير والتقدم، بما يبشر بحدوث إصلاح حقيقي ينهض بالوطن، يعتبر هؤلاء "المتطرفون" أن ما يحدث انما هو سيادة "ثقافة القطيع"! اللغة دائما تخونهم حين الحديث عن قضايا الوطن، ودائما ما يتخلفون عن نصرة قضايا المواطن، عاشوا منعمين في ظل الاستبداد وسيادة "الرأي الواحد"، وظلوا يحلمون باستمرار النعيم، حتى لو تطلب وصف 60 ألف مواطن بالحيوانات، والدفاع علنا عن أوكار الدعارة وما فايا المواخير. سياسة رديئة، وأخلاق أردأ، كلما اختلف معهم أحد أخرجوه من حظيرة الوطن. في كل مناسبة أو موضوع خلاف يهرعون إلى قاموس السباب والشتائم، مرة يصفون المواطنين بالفراخ والدجاج، ومرة بالهمج الرعاع، ولا يتورعون عن دمغ هذا الوطن العزيز وشعبه بالتخلف والغباء... أليس هذا أكبر دليل على سيادة ثقافة "القطيع"؟ إذا كنا ديمقراطيين حقا، فلنقبل الرأي الآخر مهما كان، من دون تسفيه أو تعال أو ادعاء فارغ بالحكمة. وما أصعب أن تبتلى القضايا العادلة "كقضية قانون الأسرة" بمدافعين حمقى، ترتفع أصواتهم في سياق حملات اضطهاد إعلامية منحازة مسبقا... وحين يعوزهم تقديم الحجة وإقناع الرأي العام، يلجأون إلى الشتائم والسباب... ذلك مبلغهم من العلم. اطمئنوا أيها السادة، لن يتعلموا الأدب في مخاطبة الناس مهما امتد بهم العمر، فـ "من شب على "السب" شاب عليه"... فأي خمرة جديدة يمكن أن تجدوها في مثل هذه الدنان القديم
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1164 - السبت 12 نوفمبر 2005م الموافق 10 شوال 1426هـ