بعد سقوط بغداد في العام 2003 طرح سؤال: ماذا تريد واشنطن؟ اجابت إدارة "البيت الأبيض" بطرح عشرات الأفكار التي ينقصها التنسيق والترتيب. فالأفكار التي تناقلتها الوكالات يصعب حصرها لكثرتها وتعارضها فهي تفتقد العقلانية والواقعية وينقصها النظام العام وتحتاج إلى سلم أولويات. هل تعمدت واشنطن هذه الفوضى في الأفكار ام انها صدرت تلقائيا وعن حسن نية ناجمة عن قلة دراية بالمنطقة؟ حتى الآن لا جواب نهائيا. فكل يوم تصدر كمية من الأفكار والتصريحات المتناقضة مغلفة بهالة من السذاجة. وهذه السذاجة قد تكون مقصودة لإظهار البراءة وربما يكون هدفها السخرية من المنطقة العربية/ الإسلامية والتلاعب بمصالحها وثرواتها وشعوبها. وربما تكون تلك الأفكار الأميركية ليست ساذجة وغير مقصود بها الضحك على ابناء الأمة العربية والعالم الإسلامي. وفي الحالين لاتزال تلك الأفكار تتساقط على المنطقة مدعية ان الحروب هي أفضل وسيلة لتحقيقها. فالإصلاح كما يبدو، وبحسب نظريات كتلة "المحافظين الجدد" لا نصيب له من النجاح إلا بعد تحطيم البنى التحتية "مدارس، مستشفيات محطات كهرباء وماء، جسور وأنفاق، شبكات الاتصال، جامعات" وتقويض الدول والحفر الطائفي والمذهبي والعشائري في مختلف المناطق والمجتمعات. الإصلاح إذا، يبدأ بعد حروب التدمير وتحطيم البنى التحتية وتقويض الدول ونبش القبور وحفر الاحقاد وإطلاق التطرف وترسيم النزاعات الطائفية والمذهبية... وبعدها تترك البقايا لجامعة الدولة العربية لتقوم بحفلة الترميم أو البكاء على الاطلال. مضت على احتلال أفغانستان أربع سنوات، وعلى تقويض العراق قرابة السنتين وحتى الآن لم يبدأ الإصلاح. بينما موازنة الحرب تجدد سنويا، وأنفقت واشنطن على الحربين حتى الآن أكثر من 250 مليار، دولار، ولاتزال أميركا مترددة في توضيح أفكارها. فعلا، ماذا تريد أميركا من المنطقة؟ السخرية، السرقة، النصب، الاحتيال، وضمان أمن "إسرائيل"... أم تشغيل مصانع الحرب في الولايات المتحدة وتوزيع حصص الغنيمة على شركات النفط والطاقة ومؤسسات التصنيع العسكري. أم انها تريد كل هذه الأهداف مجتمعة يضاف إليها التحكم بالنظام العربي الإقليمي وتشغيله عن بعد. أم بناء قواعد عسكرية وتشجيع الناس على الاقتتال الأهلي وتفكيك الدول إلى دويلات طوائف ومذاهب وعشائر ومناطق. ماذا تريد أميركا من المنطقة، لم يعد مجرد سؤال يطرح لتوضيح أمور غامضة، وإنما يتداول لمعرفة متى تنتهي هذه الخدعة السينمائية؟ حتى الجواب عن "متى تنتهي" تلك المشاهد السينمائية لا تعطيه واشنطن. فالإدارة تركت نهاية الفيلم مفتوحة على احتمالات، وربما تعمدت ان تكون النهاية مفاجئة للجمهور المسكين الذي ينتظر في الصالة. حين انقضت أميركا على أفغانستان قالت للجمهور العربي والمسلم إن الحرب جاءت ردا على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول .2001 وحين انقضت على العراق قالت للناس إن الحرب جاءت بقصد البحث عن "أسلحة دمار". وبين كذبة صغيرة وكذبة كبيرة كشفت الولايات المتحدة عن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وإعادة هيكلة المنطقة وتأسيس نماذج "خلاقة" كالعراق مثلا، تكون قدوة للشعوب والحكام في آن. حتى الآن، لم يبدأ الإصلاح الذي رصدت له - كما قيل - مئة مليون دولار في وقت تنفق أميركا على احتلالها لأفغانستان والعراق 100 مليار سنويا. فالحرب والدمار وتحطيم البنى التحتية والاجتماعية - كما تبدو الأمور - أعلى بمئة ضعف من كلفة الاعمار والإصلاح. فالإصلاح على الطريقة الأميركية غير مكلف وربما يعود الأمر إلى سببين أو احدهما: الأول ان المنطقة العربية/ الإسلامية متطورة جدا ولا تحتاج إلى أكثر من مئة مليون لتحديثها ونقلها من عصر إلى آخر. والثاني ان شعوب المنطقة رخيصة جدا ودمها مهدور وقيمة إنتاجها وحياتها لا تساوي أكثر من مئة مليون. مقابل كل مليون وعدت أميركا المنطقة بصرفه على إصلاح شعوبها تنفق واشنطن مليارا "1000 مليون" على تدميرها وتحطيم بناها الاقتصادية وتقويض دولها ونسيجها الاجتماعي. حتى الآن لم يبدأ الإصلاح. اما الحروب فقد بدأت منذ العام 2001 ولم تتوقف عجلاتها عن سحق شعوب المنطقة وهي لاتزال تهدد وتتوعد بالمزيد منها. فالإصلاح الأميركي بحاجة إلى حروب. والحروب يجب الا تتأخر... أما الإصلاح فيستطيع ان ينتظر حتى يقرر مخرج الفيلم المشهد الأخير من النهاية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1164 - السبت 12 نوفمبر 2005م الموافق 10 شوال 1426هـ