إجمالا، يمكننا القول إن عملية الإصلاح السياسي في المنطقة العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص، قد غدت هي الشاغل الأساسي للمهتمين بالشأنين العربي والخليجي. وإذا كان هذا الاهتمام قد عكس في جانب منه اعترافا بجدية الإصلاحات التي خطت نحوها غير دولة خليجية، فإنه من جانب آخر، كشف عن مستوى هائل من القصور الكامن في هذه الإصلاحات والذي أصبح يهددها. أول هذه العوامل، متأت، من تداخل البعدين الداخلي والخارجي في الإصلاحات الحاصلة، وثانيها تجاذب العوامل المعوقة الدافعة لعملية الانفتاح، وأما ثالثها فيعبر عنه تقاطع قضية التحول الديمقراطي مع قضية الأمن القومي. وقبل هذا وذاك الطابع العائلي والقبلي في أنظمة الحكم المعنية، ففي جميع دول مجلس التعاون الخليجي - كما يبدو - فإن العوائل الحاكمة ليس لديها المقدار الكافي من الرغبة في الدخول في عملية الإصلاح السياسي والإداري الشامل، فإذا تحدثوا عنه فهم يقصدون كلماته الظاهرة وليس مدلولاته الموضوعية الكامنة، ولا يبدون أدنى استعداد للتخلي عن بعض سلطاتهم المطلقة ولا المزايا أو العوائد والامتيازات التي يستحوذون عليها، وتلك العوامل تتشارك فيها أنظمة الحكم في دول الخليج مع أنظمة الحكم العربية. وتأسيسا على ذلك، يتبين أنه في ظل غياب الإصلاحات السياسية والتشريعية والدستورية التي تقر المساواة في المواطنة وتوفر حماية قانونية لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، يزداد الميل للعنف والتطرف في شتى الدول العربية، لذلك فإن الإصلاح السياسي المبني على الإقرار بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان وتطبيق قيم الديمقراطية وتفعيل المجتمع المدني واحترام سيادة القانون والمحاسبة والشفافية، هي شروط أساسية لتعزيز الوحدة الوطنية وتمتين الجبهات الداخلية للحيلولة دون حدوث التدخلات الأجنبية في كل قطر عربي، فضلا عن ضرورتها للتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة. إن عملية الانتقال إلى الديمقراطية تتطلب شروطا أساسية منها، وقف العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، إذ مازالت سارية المفعول في بعض الدول العربية، وإطلاق الحريات الإعلامية ورفع كل أشكال الرقابة عنها، وإزالة مختلف القيود المفروضة على تأسيس الأحزاب والجمعيات، والإفراج عن جميع معتقلي الرأي والضمير، فضلا عن السماح بعودة جميع المنفيين السياسيين، إضافة إلى تبني نظم وطرائق انتخابية تعزز من اتساع المشاركة الشعبية والتعددية السياسية التي تفضي إلى التبادل السلمي للسلطة وتضمن الحقوق الانتخابية للأقليات، وعلى الأخص المرأة. ومع ذلك دعونا نسأل: أي إصلاح سياسي ذاك الذي نريد وننشد؟ يمكن القول إن المشاركة الشعبية هي جوهر أي إصلاح سياسي، وإن خيار المشاركة الشعبية يجب أن يفضي إلى عملية انتخابية صالحة ومؤسسات برلمانية. إن العملية الانتخابية إذا ما تقرر إنجازها يجب أن تمضي بعيدا عن التموضع المرتكز على التقسيمات الرأسية للمجتمع أو التشطير العمودي للإثنيات. ونحن إذ نقول ذلك إنما نستحضر تجارب عربية وإقليمية ما برحت ماثلة للعيان. ولعل ما يزيد من مأزق شعوبنا العربية أن أدوات الحكم الصالح الذي تسالمت عليه الأمم وأجمعت عليه شعوب الأرض من خلال الأمم المتحدة، لم تعد تلقى اعتبارا لدينا في المنطقة فأصبحت شعوبنا في مواجهة حكام وحكومات منافقة تعد ولا تفعل، وأحزاب وجمعيات غير ناضجة لا تجيد غير ردات الفعل المتأخرة، وبرلمانات ومجالـس تشـريعية لا تسـتطيع أن تقول "لا" أمام الحكام والسلطات المستبدة، ومثقفين وأدباء لا يجيدون غير التزلف وتدبيج المدائح، نتج عنها شعوب مقهورة تعاني من التخلف ولا تنتظر سوى الأمل بعد أن عانت طويلا من استمرار الألم والقهر الاجتماعي، وذلك لأن الديمقراطية ليست مجموعة إجراءات بيروقراطية وحسب، بل هي ممارسة خلاقة تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة مجتمعية حية ومدركة. ما أسلفنا ذكره من رؤى وعوائق وحلول بشأن التحول الديمقراطي في الوطن العربي، وإن أصاب بعض أو كل الحقيقة في واقع هذا التحول، فإنه سيظل مبتورا ما لم نأخذ في اعتبارنا عددا من الخطوات التي يمكن العمل بها لتعزيز هذا التحول وهي: 1- ضرورة أن يتخذ المجتمع المدني خطوات عملية وإيجابية تجاه الإصلاحات المنشودة، وما يترتب على ذلك من إعادة صوغ ودعم مفاهيم التحول الديمقراطي والتعددية والتأكيد على أهميتهما والسعي نحو بناء الهياكل التنظيمية المعززة لعمل الجمعيات والأحزاب السياسية. 2- النأي بالمجتمع المدني عن دوره الحالي كمتلق للسياسات والإملاءات. 3- ضرورة الارتقاء بالمجتمعات العربية مما تعانيه من حال الصراخ وتبادل الشتائم والاتهامات بسبب أو من دونه، أو الاقتصار على المطالبة بتحقيق الديمقراطية السياسية فقط وتناسي الجوانب الأخرى المرتبطة بالتنمية الشاملة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخصوصا في وقت نعاني فيه من البطالة والفقر والفساد وسوء الحال. وفي هذا السياق يحق لنا أن نتساءل بشأن مدى قدرة الديمقراطية السياسية بمعزل عن معالجة هذه الجوانب على إطعامنا خبزا وتأمين مساكننا وأعمالنا وكرامتنا وأرواحنا، وأخيرا إنسانيتنا. وهل يكفي أن ننظر إليها كمجرد لوحة جميلة تزين قصور الوهم المحيطة بنا، أو كتحفة فنية نعرضها لزوارنا من الغربيين وأشباه الغربيين؟ وكيف يمكن للحكومات العربية في ظل هذا الواقع المرير أن تقدم ولو تقريرا واحدا عما فعلته بمجال تعزيز حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية وأحقيات الحياة؟ كما يتحتم علينا ونحن في هذا السياق، أن نجيب بصراحة وبعمق عما نريده تحديدا. إن طريق الإصلاح هو الطريق الصحيح الصائب المجرب. ولا ضير في أن يكون هذا الإصلاح تدريجيا، فالخطوات المحسوبة والمدروسة أفضل ألف مرة من تلك الخطوات العشوائية، أو من القفزات في الهواء، ولكن هذا التدرج لا يعني مشي السلحفاة ولا التلكؤ عن انجاز المهمات الماثلة والناضجة للحل منذ أمد بعيد والهروب منها، وتأجيلها نظرا لصعوبة حلها. إن مواجهة هذه المشكلات مهما كانت معقدة هو الذي سيفتح طريق المستقبل. 4- إن صحة أي شعار لا تكمن في جذريته، وإنما في مضمونه وصدقيته وإمكان تحقيقه، ولذلك فإن أي إصلاح سياسي يتم تفريغه من محتواه ومضمونه سيظل شعارا أجوف وغير صالح للمجتمعات العربية، وبالتالي فإن إصلاحات المنطقة لن تتم إلا من خلال إنهاء حال الاستبداد والأحادية والانفتاح على قوى المعارضة وتشكيلات المجتمع المدني والمشاركة الشعبية في اتجاه بناء أنظمة ديمقراطية تعددية حقيقية وفعالة في المنطقة. 5- إن من سمات الحكام العرب، أن الحاكم منهم يتميز بقدرة هائلة على تبني أنصاف الحلول دعما لبقاء سلطاته وحكمه وبقاء مركزية القرار بيده، فهو نصف بدائي ونصف عصري، نصف إقطاعي ونصف رأسمالي، نصف فارس مملوكي ونصف جندي معاصر، نصف متعلم ونصف أمي، نصف عروبي ونصف آخر متعاون مع الأميركيين! ولكنه انقلابي من الدرجة الأولى أيضا وأساسا، وهذا التناقض المقصود غالبا ما تكون له انعكاساته في حسابات الإدارة الأميركية والقوى السياسية الدولية ومواقفها المتذبذة في التعامل مع الأزمات الساخنة في المنطقة العربية وقضاياها الملحة والمصيرية. فهي تارة تشجع مطالب الإصلاحيين في مصر وتتخوف من نتائج الإصلاح على مصالحها الحيوية وعلى طبيعة النموذج المجتمعي الذي تنشده في المنطقة. كما تشجع الإصلاح السياسي في منطقة حكم السلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته تخشى أن يؤدي ذلك إلى تصاعد المقاومة الإسلامية التي تنعتها بـ "الإرهاب"، والمشهد ذاته قائم ويتكرر في السودان ولبنان وسورية ومناطق عربية أخرى بخلفيات مغايرة. لكن الثغرة الأساسية في المشروع الأميركي والغربي لإصلاح المنطقة والذي يجعله مرفوضا شعبيا هو تحويل المطلب الإصلاحي نفسه الذي هو حاجة حيوية وماسة لا غنى عنها، إلى موضوع صدامي تحجبه رهانات واعتبارات العلاقات العربية - الأميركية ودعم الاخيرة المطلق للكيان الصهيوني المعتدي على الشعب الفلسطيني والبلدان العربية المجاورة. وأخيرا، حق علينا أن نسأل: أين الإعلام العربي من كل هذه المآسي؟ ونقول من الطبيعي أن يغيب الإعلام العربي عن أداء دوره نتيجة لما يخضع له من هيمنة من قبل الحكام العرب وحكوماتهم، لأن إعلامنا العربي شلت أوصاله وهو في مهده وأعلن عن إفلاسه قبل أن ينطلق. وفي وقت كرس فيه إعلامنا العربي كل همه في الهجوم على الصهاينة والأميركيين بهدف توجيه مخزون الغضب الشعبي العربي نحو عدو خارجي بدلا من العدو المحلي الذي يحمي الفساد ويكرس الاستبداد ويغتال الحريات، فهو مطالب بأن ينفض عنه ما تراكم عليه من غبار وجمود طيلة هذه السنوات، وأن يدرك أن الديمقراطية لا يمكن لها أن تنمو وتزدهر إلا من خلال إعلام قوي وهادف، وقبل هذا وذاك، محايد في طرحه لقضايا الوطن وهمومه ومستقل عن هيمنة السلطة وإملاءاتها وتبعيتها، ومعبر عن تطلعات شعوبنا العربية بما فيها المعارضة وقوى التغيير في المجتمع المدني وليس حكرا على السلطات المستبدة وأداة من أدوات القمع والسيطرة
العدد 1163 - الجمعة 11 نوفمبر 2005م الموافق 09 شوال 1426هـ