«الأفق يتباعد... ونحن نحمل الظلام مشاعل»!
من المنجز الكلي للبشرية، أعتقد أن سكان هذه السفينة الفضائية ربما يكونون قد نالوا شيئاً من الحظ، لأنهم عبروا أجزاء، ولو قليلة، من تاريخية العلم، بفضل نشاط وفاعلية الحضارة الغربية الحديثة، هذه الحضارة التي يمثل وردة هرمها باقة الدول الثماني! ولكن حين أمدّ رقبتي صوب الأفق، يصفعنى الأسى، ويحرضني الخذلان على السؤال قهراً، لماذا لا نكون نحن هناك؟ وأعني هناك، ناحية المستقبل.
فوجودنا على هذه المسافة الرقمية لا يحرم الإنسانية من طاقاتنا المهدورة أو الكامنة، أو المنفعلة في اتجاهات النكوص فحسب، ولكن ربما خمولنا أو ارتكاسنا، أو حراكنا السالب، يعمل كأوزان مقاومة تقلل من إحراز تقدم أكثر للبشرية! فنحن لا نركض في مضمار التقدم، ولا حتى نزحف، وإنما ننزلق في اتجاه معاكس! اتجاه أراه يجعلنا عبئاً على المستقبل!ومن المفيد النظر إلى هذه الباقة المتقدمة من الدول، بأنها لا تنضوي تحت ثقافة غربية بمفهومها الجغرافي والحضاري المستقر في أخيلتنا وتصوراتنا تقليدياً، نظراً إلى حضور جغرافية وتاريخية مغايرة مثل اليابان، وربما دول أخرى تتقدم إلى القوس ذاتها مستقبلاً كالصين وكوريا، والتي تمثل طيفاً ثقافياً مختلفاً! كما أن دول الجغرافيا الغربية، هي الأخرى تشع أطيافاً متنوعة من الثقافة. فالثقافة الأميركية تتباين عن الثقافة الفرنسية، وتخاصرها في الاتجاه نفسه، وثقافة الشمال الأوروبي، تتباين مع جنوبه. كما أن في داخل بنية كل دولة أطيافاً متنوعة أيضاً. وهذه الأطياف مصدر غنى وإثراء للمجتمع، وتمكنه من التناغم في هرمونية مع التطور والحداثة التي تتنقل في منحنياتها التصاعدية لهذه المجتمعات. وهذه الحداثة والسفر ناحية المستقبل هي القوس الأعظم الذي يجمعها. ومن المفيد أن نلتفت إلى أن الصراع الذي يحدث بين تنوع ثقافاتها إنما يغذي هذا السفر، الذي ترشح الآن منه صبغات العولمة، بكل تفاضلها وتكاملها! هذه العولمة التي خطأً نكيل لها السباب، باعتبار أنها موجهة قصدياً وخصوصاً ضدنا وضد حضارتنا تحت هاجس صراع الحضارات، الذي عادة ما نستحضره من قيعان الذاكرة التاريخية، والمحاذاة الجغرافية، بأن حضارة الغرب لا يهمها إلا القضاء على حضارتنا فيتركنا هذا الوهم والعجز في اللحظة ذاتها نلوذ بأحجبتنا ومصداتنا لنتقيها! من دون أن يكون هناك من يستطيع تأكيد أن كل ما ترشحه الحضارة الغربية هو إيجابي على المطلق، ومن يقول بذلك عليه أن يتمعن في خريطة الحروب الحديثة التي تشنها الآلة العسكرية الغربية الجبارة على العالم، وتدمر حضارتنا وتسرق تراثنا في العراق وفلسطين، باسم الحرية والديمقراطية وكأنما الحرب والحرية ليستا على ضفتين متناقضتين! ألم تكن الديمقراطية خياراً وحلاً إنسانياً ضد خيار الدمار والعنف؟
حتى هذا اللحظة التاريخانية، نرى أن الحضارة الغربية المعاصرة قد أنجزت حقبة كبيرة من ثقافتها على مستوى الكوكب، ولا نحتاج إلى صعوبة في التدليل سيمولوجياً على انتشار وتغلغل هذه الثقافة ووصولها إلى كل نقطة جغرافية. فهي سائدة ومتربعة على مستوى العمارة والعمران، ومستوى اللباس، والتغذية والأكل، والترفيه والسياحة، والفنون من سينما ومسرح، وغناء، إلخ... وعلى مستوى الاستهلاك، والمواصلات، والاتصالات، والإعلام، والصحة، والرياضة، وألعاب الأطفال، وحقول أخرى. وبعد ما أنجزته هذه الحضارة في زمن الحداثة، فإنها وبكفاءة عالية شرعت في الإبحار إلى ما بعد الحداثة، مستثمرة ثورة الهندسة الوراثية، وما تفرضه من إعادة التفكير في منظومة الأفكار والقيم، والصحة، والجمال، والقدرات الإنسانية. وكذلك باستثمار الثورة الإلكترونية، التي أدخلتنا اللحظة الرقمية زمنياً، وأسكنتنا الغرفة الكونية. وهذه النقلة الرقمية عبر الشاشات: الفضائيات، الهاتف المحمول، الكمبيوتر، وشبكة الانترنت، نقلت الثقافة الغربية بقوسها الأعظم، إلى مسافة ضوئية، ربما تمكنها من بسط لغة كونية موحدة، وطرائق تفكير وسلوك متقاربة ؛ وهذا ما تبدو علاماتها ومؤشراتها على أجيال المستقبل. وطبعاً هذا الصوغ للعالم لا يبث خوفاً أو قلقاً شخصياً لدي، وإنما ألماً على غياب الحضارة التي أنتسب إليها، وعدم مشاركتها في إنجاز هذا التقدم، وحسرة عميقة على أن المناخ السائد الآن لا يرشّح دلائل على أن هذه الحضارة ستتجاوز زمنها الميت، أو توقف نكوصها! ولهذا التوقف والنكوص في الزمن مسبباته وعلله الكامنة والفاعلة في بنية تفكير وسلوك هذه الحضارة!
في الوقت الذي تتبوأ الحرية والشفافية والعلم أمكنة متقدمة في الثقافة الغربية المعاصرة، مانحة إياها فضاء المغامرة والاكتشاف، فإن فاعلية وسحر الأحجبة لعبت ومازالت تلعب في ثقافتنا العربية الإسلامية أدواراً مؤثرة، بصفتها ثقافة تحصينية قابضة، ومنكفئة على الذات، مقاومة لروح المغامرة والاقتحام، ومحجمة للفاعلية الفردية، ومثبطة للعلم، ومعززة للاستبداد. ويشتغل هذا التحصين بدءاً من الرمز الأكبر للاستبداد والقمع الذي يتحصن من شعبه بالحاجب الذي يحرس مداخل القصر، ويجعل من رؤية الحاكم أو الخليفة فرصة شبه مستحيلة. كما يتمثل بالأحجبة التي يكتبها الكهان والمشعوذون كعلاج سحري ضد الحسد والجن والشياطين، وتعلق في رقاب الناس، أو تعقد على زنودهم، أو على أبواب المنازل! ويظهر هذا الحجاب في نمط العمارة وجدران العزلة الداخلية أو الخارجية، كما في اللباس وخصوصاً اللون الأسود الذي يغلف المرأة بطريقة تتناقض والعلم والبيئة الحارة جداً، باعتبار أن اللون الأسود أكثر الألوان قدرة على إخفاء ما بداخله، وبالتالي يحصنه!
وهذه التمثلات للتفكير التحصيني المنكفئ والخائف من الآخر، ومن المتغيرات، ما هي إلا إفرازات ومظاهر للأحجبة والمصدات الصلبة التي تكرست على مدى قرون طويلة، ومازالت يافعة وناشطة حتى اللحظة الراهنة، ومن أهمها:
- حجاب الكرسي: يحيلنا الكرسي في ثقافتنا الإسلامية إلى القدرة المطلقة للخالق وحضوره في كل مكان، فكرسيه يسع السماوات والأرض! وربما لهذا صار خلفاء الله وظله على الأرض، يرون في كراسيهم امتداداً، أو ظلاً لكرسي الله، فيتمددون بقدره، ويعملون بشتى السبل على أن يكون كرسيهم خالداً عن طريق التوريث، ولا يسمحون لأحد أن يقترب من قوائمه! وتتمدد فكرة الكرسي وبريقه وسطوته، إلى كل الكراسي الأخرى المحيطة والأقل منزلة. ومن لا يجلس على كرسي حقيقي فإنه يبحث عن كرسيه المجازي كالمكانة القدسية التي يحظى بها أو يسعى إليها بعض رجال الدين! ويظل من يجلس على هذا الكرسي حاجباً بأفعاله ومحجوباً عنه في اللحظة نفسها، فيظل ملتصقاً بكرسيه حتى الموت، ومطلقاً صوته نحو المجرات مثلما يفعل «ديناصور» الروائي البرتغالي خوزيه كاردوسو بيريس، في رائعته «صاحب الفخامة الديناصور»، التي يقول فيها:
شارع الديناصور
كازينو الديناصور
مصرف الديناصور
عملات الديناصور الذهبية
مطار الديناصور
أكاديمية الديناصور
نادي الديناصور لكرة القدم
قصر الديناصور... لا شيء يصير من دون الديناصور!
- حجاب البصاصة والتعذيب: لا أحد منهم يريد أن يفقد كرسيه، وبالتالي يفقد قوته وجبروته وسطوته، وهذا ما جعله يبتكر شتى الأساليب الوحشية للمحافظة على الكرسي، وعلى التصاقه به. ولم يجد هؤلاء الملتصقون أفضل من السوط والزنزانة وأحياناً السيف، لحجب من يعتقدون ولو على سبيل سوء الظن والنية أنه يتخيل الكرسي فارغاً من أجسادهم، وإخفاء صوته وجسده، وربما نسله، درءاً لما يهدد خلودهم ! ومازال هذا الحجاب المتوارث فاعلاً بقوة في حضارتنا حتى الآن، ويديره جهاز مدرب على القسوة والعمى، وتنفق عليه الدول من موازنتها، أكثر مما تنفق على التعليم والصحة.
- حجاب الريع والإغداق: لم نزل حتى الآن رعايا، وترتهن شروط حياتنا وبقائنا بما يغدقه علينا الراعي، صاحب الحق المطلق، من عطايا ومكرمات. ويتناسب السخاء طردياً مع تسبيحاتنا وصلواتنا، لبقاء الكرسي وعبقريته. ليتم استمرار حجب الدولة عن التاريخ المدني الحديث الذي يجعل منها دولة قانون ومؤسسات وشراكة، وكفاءات؛ فتتبلزم هذه الدولة إلى دار لعبادة الفرد، أو الحزب، أو القبيلة، أو الطائفة، وتصبح مؤسساتها بمثابة جماعات تحج يومياً إلى ديوان العطايا والمنح!
- حجاب الجهل والأمية: كثيراً ما يتم التغني بأهمية العلم ووجوبه، وأنه سبيل الخلاص والتقدم ! ولكن ماذا يقول المشهد الذي نعيشه؟ أليست الأمية بمستواها الأول، قراءة وكتابة، متفشية ومتسيدة حضارتنا، ومن دون أن تكون هناك خطط وبرامج فاعلة للقضاء عليها؟ أليس هناك فقر ثقافي يدلل عليه إنتاج وتلقي الثقافة كماً ونوعاً؟ فلو تساءلنا كم عدد الكتب التي ينتجها الوطن العربي سنوياً؟ هل تعادل ما تنتجه دولة أوروبية صغيرة مثل هولندا؟ ما نوع هذا الإنتاج الثقافي والفكري؟ ويجيب على هذا السؤال نوعية ومحتوى الكتب التي شاركنا بها في معرض برلين الدولي للكتاب والمخصص لثقافتنا العربية ! ألم تكن هذه الثقافة السائدة ثقافة استنساخ واجترار لأفكار ونتاجات موغلة في القدم، وبعيدة عن قضايا الحاضر، وتحض على النكوص! فمازلنا نخلط العلم بالعرفان ونصنف رجال الدين بالعلماء القادرين على الإجابة على كل شيء حتى في أسئلة الهندسة الوراثية والفلك! ولو سألتنا الحضارة الحديثة من هم علماؤكم لأجبناها، إنهم هؤلاء! وأعتقد أن دولنا بارعة جداً في صناعة الجهل، وجعله حجاباً مانعاً قادراً على التصدي لكل التأثيرات الخارجية والداخلية، وتتجلى هذه الصناعة في ميديا الإعلام العربي الذي يكرس مساحة شاسعة ومكثفة لثقافة التبجيل والتكفير والتخدير، والإزاحة؛ فيما يحجر على الثقافة الطامحة إلى المستقبل، ويتم حجبها وحجب مصادرها والمنادين بها!
- حجاب التحريم والمنع: التحريم والمنع يشتغلان بذهنية واحدة، ذهنية التضييق والحجر على التفكير والسلوك بغرض تسهيل السيطرة والتطويع، وإبقاء التاريخ في لحظته الساكنة! وفي هذه الذهنية تتجلى أوضح صور التحالف بين المؤسستين: اللاهوتية التي
إقرأ أيضا لـ "كاظم عبدالله"العدد 1162 - الخميس 10 نوفمبر 2005م الموافق 08 شوال 1426هـ