استعانت الحكومة الفرنسية بقانون طوارئ يعود إلى العام 1955 لاستخدامه بعد 50 عاما على صدوره لمواجهة حال الفوضى التي عمت ضواحي باريس وامتدت إلى مناطق أخرى. اللجوء إلى إعلان حال الطوارئ يعني ان الحكومة قررت تغليب المعالجة الأمنية على الوسائل الأخرى انطلاقا من مخاوف سياسية تشير إلى احتمال وجود جهات تستغل الفوضى العامة لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالظروف المعيشية الاجتماعية والصحية التي تسود تلك الأحياء. الآن، أمام الحكومة الفرنسية فترة 12 يوما للسيطرة على الوضع ومنع الفوضى من الانتشار. فالقانون ينص على هذه الفترة وإذا أرادت وزارة الداخلية تمديدها فهذا يعني انها باتت في وضع لا تحسد عليه، ولذلك يرجح ان تلجأ الحكومة إلى استخدام كل الأدوات المتاحة حتى لا تستهلك المدة الزمنية. هناك إذا ما يشبه السباق بين الحل الأمني السريع ومتطلباته القمعية والحل السياسي الذي يتطلب خطوات مرنة تعتمد العقلانية لاحتواء التشنجات العنصرية وتلك التصريحات البذيئة التي أطلقها وزير الداخلية ضد شريحة من الفرنسيين "الغرباء". وبغض النظر عن نتيجة السباق باتت معالجة الأزمة أصعب من كل الوسائل المتاحة الآن. فالفوضى اسفرت عن تداعيات "غير بناءة" وكشفت الغطاء عن معضلة بنيوية تتصل بموضوع الهوية وما يمكن تسميته بتعارض العلاقات الأهلية بين غالبية تميل إلى التمسك بثقافة التجانس وأقليات "جاليات" وافدة تحمل معها ثقافة لا تتوافق ملامحها مع مواصفات تلك الثقافة وشروطها. هذا التعارض في الهويات من الصعب معالجته أمنيا باستخدام هراوات القمع والمطاردة البوليسية. وكذلك يستبعد السيطرة على انفعالاته العنصرية بالسياسة والانفتاح وإغراق الضواحي بالوعود الاجتماعية والمعيشية والصحية. فالمسألة تجاوزت هذه الحدود وتحولت إلى أزمة مستقلة لها خصوصياتها وآلياتها الداخلية التي تنتج مجموعة دفاعات تتصل بالثقافة والدين واللون واللغة والعادات وحرية العبادة والاعتراف والاحترام وغيرها من تشعبات. ما حصل في الأيام الأخيرة أرسل إشارات قوية تمس جوهر الثقافة وما يتفرع عنها من انفعالات ليست بالضرورة ردة فعل على التمييز الاجتماعي وانما هي ترد على الاحتقار الذي يصدر عادة عن علاقات الناس اليومية. فالاحتقار يمنعه القانون الفرنسي ولكنه في واقع الحياة اليومية تحول إلى وسيلة سياسية تعتمدها مراكز القوى الرسمية والشعبية في التعامل السلبي مع الضواحي والأحياء الفقيرة. وهذا النوع من التعاطي أسس خنادق ثقافية/ نفسية تفرق بين ثقافة الغالبية المتجانسة وثقافة الأقلية الوافدة. ثقافة التجانس في طبيعتها الأصلية ترفض التعدد والتنوع وتقوم أساسا على فكرة الطرد. فهي ثقافة في جوهرها الإنساني طاردة للآخر ونافية لوجود طرف بديل أو مجاور يحمل معه تصورات لا تتجانس مع الأكثرية "الغالبية السكانية". وهذا النوع من الثقافة "الشعبوية" يعتمد على خطاب أهلي تحريضي يدفع بالأقليات نحو التهميش لا الاحتواء، وهو يصدر من مواقع سياسية مختلفة يمينية ويسارية، عنصرية وليبرالية، نقابية أو رسمية. والتصريح الذي نقل عن وزير الداخلية وكلامه القبيح عن الجماعات التي تقف وراء الفوضى يعكس مستويات مختلفة تتفق على خطاب واحد ومشترك تعتمده دائما ثقافة التجانس. وزير الداخلية وصف سكان الضواحي والأحياء الفقيرة بـ "الحثالة". وكلمة الحثالة التي صدرت من طرف مسئول عن أمن الدولة تعطي صورة مصغرة عن حالات متشابهة ومفردات مشتركة لا تتردد مختلف الطبقات والاحزاب والهيئات والمنظمات على أنواعها في إطلاقها إذا اقتضت الضرورة السياسية. اليوم عادت الحكومة الفرنسية إلى استخدام قانون طوارئ يعود إلى العام 1955 في محاولة منها للسيطرة على الفوضى. وغدا قد تلجأ إلى قوانين علمانية اسوأ لمعالجة قضايا تتصل تشعباتها بالهوية العامة للدولة باسم الدفاع عن فكرة تجانس ثقافة الناس.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1161 - الأربعاء 09 نوفمبر 2005م الموافق 07 شوال 1426هـ