حتما هدأت وستهدأ أكثر فورة الفتنة الطائفية التي عصفت بمصر خلال الأيام الماضية، وعاد الشعب الى مجرى حياته البسيطة الطبيعية، يتقاسم لقمة العيش العزيزة، مثلما يتقاسم الهموم والمشكلات، تقاسم الغنم والغرم. .. لكن هذا كله لا يجب ان يخدعنا أو يردعنا عن مواجهة الحقيقة، ومكاشفة أنفسنا بأن هناك مشكلة وخللا وتعقيدات متراكمة، ولدت احتقانا مكبوتا في النفوس غير الراضية، فإذا به ينفجر بين وقت وآخر وأحيانا لأتفه الأسباب! فما الذي عبأ النفوس، نفوس المسلمين ونفوس المسيحيين الى حد الاشتعال، بل الاشتباك العصبي التعصبي عند أول نقطة احتكاك مهما كانت خفتها وبساطتها! أعتقد أن الوقت قد حان لطرق جوهر هذا الاحتقان المشترك مباشرة، من دون لف أو دوران، ومن دون تبرير ساذج يرضي النفس ساعة، ويقلقها ساعات وأياما وعقودا... وجوهر الاحتقان كما نظن نابع من حدة الاستقطاب الديني الذي جرى ويجري في مصر المحروسة على مدى العقود الأخيرة، من دون محاولة جادة، من جانب الدولة ومؤسساتها ومن جانب المجتمع المدني ومنظماته، لرصده وتشريحه ومعالجته أولا بأول، هو استقطاب بين غالبية من المصريين تدين بالاسلام، وأقلية من المصريين تدين بالمسيحية بكنائسها المختلفة، وان ظلت الكنيسة الارثرذوكسية هي الكنيسة الوطنية الأهم والأكبر. ثم هو استقطاب تورطت فيه أطراف مختلفة وقوى متصارعة، من رجال الدين على الناحيتين، الى جماعات متطرفة ومنظمات تكفر الجميع، امتدادا الى بعض المثقفين ولاعبي السياسة، وصولا الى الصحافة والإعلام والفضائيات... ووسط هذا الكم المتداخل، ظل السؤال مطروحا بقوة: أين الدولة ومؤسساتها ودستورها وقوانينها ومسئوليتها عن إدارة حركة المجتمع بدقة وعدالة وانتظام! أخشى القول ان مصر، التي تعودت تاريخيا على سلطة الدولة وقبضتها القوية، قد أصابها شيء من التحلل والتفكك حتى في مفهوم الدولة القوية المركزية، فاندفعت في اتجاهين للعجب متناقضين! اتجاه اعادة بناء "هيبة الدولة الاستبدادية" وليس بالضرورة الدولة القوية، معتمدة على السلطة البيروقراطية وأجهزة الأمن والقوانين المتشددة، واتجاه مناقض مضى فيه المجتمع، يبحث بتكويناته المختلفة عن مسالك أخرى للتعبير عن نفسه، ربما تحديا لسلطة الدولة الاستبدادية! ومن بين هذه المسالك الخضوع للاستقطاب الديني الحاد والمؤدي حتما للصدام... وواكب ذلك مناخ دولي يشجع على هذا الاستقطاب الديني، ويحرض صراحة على الاسلام كدين والمسلمين، كشعوب وأفراد وينعتهم علانية بأحط الألفاظ وأقذر الصفات، من الارهاب وسفك الدماء الى الغدر والشذوذ، وقد ازدادت حمى "الاسلاموفوبيا" في الغرب الأوروبي الأميركي، معقل المسيحية واليهودية، حدة في اعقاب الهجمات الدموية على نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول ،2001 وصولا الى اعلان الحرب، التي وصفها الرئيس بوش مرة بأنها "حرب صليبية" ويراها مسلمون كثيرون فعلا كذلك! مثلما واكبه مناخ اقليمي انتشى بالمناخ الدولي سالف الذكر، انتعشت فيه الصراعات الطائفية والمذهبية، ودعوات التقسيم العرقي "انظر نماذج العراق والسودان بل ولبنان وغيرها" الى جانب احتقانات محلية، على كل الأنواع، سياسية واجتماعية اقتصادية وفكرية، تطفو بين الحين والآخر مثل البثور الجرثومية على الجلد، سرعان ما تنفجر ضد الفساد والاستبداد احيانا، وضد الظلم والعنصرية واختلال موازين العدل احيانا ثانية، ودفاعا عن الدين والملة والطائفة أحيانا ثلاثة!
وحين يتراجع "المشترك الوطني والمجمع القومي" في سياسات الدولة وثقافة المجتمع، تتضخم البثور وتتفتح الجروح وتضطرب الحياة جميعا... والعكس صحيح، ففي بدايات القرن العشرين اجتمعت الأمة على هدف الاستقلال والتحرير وطرد المستعمر البريطاني الذي غزا مصر العام 1882 بحجة حماية "الاقليات"، واجتهد لتحريض المسيحيين المصريين، لكن ثورة الشعب العام 1919 جمعتهم في وحدة الشعار الشهير "الصليب مع الهلال - والدين لله والوطن للجميع" وفي ملحمة حرب أكتوبر العام 1973 اجتمعت الأمة على الهدف ذاته لطرد المحتل الاسرائيلي وحارب المصريون جميعا مسلمين ومسيحيين في خندق واحد... وهكذا... لكن يبدو ان عضلات المصريين قد ارتخت وتشتت أهدافهم على مدى العقود الأخيرة، ليس بسبب غياب "العدو الخارجي الغازي والمحتل"، ولكن اساسا بسبب التحولات الداخلية والمتغيرات الخارجية، التي عصفت بقيم ومبادئ وطنية ودولية عدة، من قيمة الشرف والعمل والتكافؤ والاجتهاد الى قيمة الوطن ومبادئ الوطنية وحقوق المواطن وحرياته، الأمر الذي شكل اضطرابا مجتمعيا عاما، تراجع فيه دور الدولة والقانون والمؤسسات الدستورية، لصالح قوى سياسية اجتماعية جديدة، تريد السلطة والثروة معا حتى بالقوة المتوحشة! وفي هذا المناخ الانتقالي المضطرب بزغ نجم الاستقطاب الديني آلية من آليات الصراع والتنافس في ظل تراجع الاستقطاب السياسي والفكري المستنير، الذي هو أهم آلية من آليات الحوار والحراك الديمقراطي السليم... وحين تراجع الحراك السياسي لصالح الاستقطاب الديني، طفا على السطح صراع المرجعيات الدينية، فقد لجأ بعض المسلمين الى المسجد والفقيه، بل لجأ البعض الآخر الى التنظيمات المتطرفة المتشددة التي قدمت وصفا سهلا للحال "مجتمع كافر ظالم يجب تدميره من الأساس"، بينما لجأ بعض المسيحيين الى الكنيسة والكاهن، بل ايضا لجأ البعض الى الارتماء في أحضان دعوات متطرفة تنادي "بتحرير المسيحية من الغزو الاسلامي"... الأمر الذي يمهد التربة لصدمات أكثر حدة وعنفا. وما لم تستعد الدولة والقانون الهيبة الضائعة والسلطة المتهالكة المتراجعة، فإن حدة الاستقطاب الديني ستمضي الى ما هو ابعد وأخطر، فتصبح المرجعية الحقيقية في المجتمع ليست المرجعية السياسية، بل المرجعية الدينية، في الأزهر أو البطرياركية ولكل قوانينه وسياساته وربما دستوره وعظاته، تتبادل من خلالها هذه المرجعيات الدينية المختلفة حملات الحشد والردع المتبادل، عبر آليات ووسائل عدة، كانت كامنة وسرية في الماضي، وأصبحت علنية وصريحة في الحاضر، من نوع الاحتجاجات والمظاهرات واخذ الحقوق باليد وحماية الحريات بالسلاح، لأن الدولة تراخت والقانون غاب والأحزاب أفلست والمدارس والجامعات والنقابات صارت تفرخ التيارات المتطرفة والمتعصبة وأجهزة الإعلام تستغل في نشر ثقافة التسطيح والتهميش! ونعتقد ان خطورة هذا الاستقطاب الديني، على بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية صارت ظاهرة واضحة، حين يلجأ المسيحي للكنيسة ويحتمي بكاهنه في حال يئسه من اصلاح أوضاعه، ويصير البابا هو زعيمه وقائده، مقابل ان يلجأ المسلم الى الأزهر أو أي تنظيم اسلامي آخر، ويتساند مع خطيبه وفقيهه في حال ثورته على تردي أحواله المعيشية واختناقه السياسي، ويصبح الشيخ أو الواعظ الديني رئيسه ومرشده وزعيمه الذي يقسم له على السمع والطاعة. الخطورة الحقيقية، تكمن ايضا في هذا الدور السياسي المتصاعد والملتبس المازج بتعسف بين الدين والسياسة، بين دور ومهمة الدولة ومؤسساتها ومهمة دور العبادة ورجالها، لحساب اضعاف المهمات السياسية الحقيقية للدولة والمجتمع ومؤسسات هذه ومنظمات ذاك، تلك التي اصابها الوهن والخمول والتراجع، الأمر الذي انعكس بالسلب، حين نرى كبار مسئولي الدولة ورجال السياسة والاحزاب ومنظمات المجتمع المدني يلجأون الى استغلال نفوذ رجال الدين، وتوريط المسجد والكنيسة في الدعم والمساندة السياسية واستجلاب الرعاية والتأييد في المعارك الانتخابية على سبيل المثال، وهو ما يتناقض مع الاصول، ويعرض قداسة الاديان، ومكانة رجال الدين للخوض في ساحة الصراعات السياسية، والى مواقف بالغة الحرج متناقضة مع مهماتهم في الدعوة الروحية والارشاد والوعظ الايماني، المفترض تناقضه مع الاعيب السياسة ومطباتها الصعبة وربما القذرة غالبا...
ما العمل اذا في وجه كل هذا الاضطراب المجتمعي السائد؟! لا أزعم انني امتلك اجابة سريعة أو وصفة سهلة، كما يدعي آخرون لكن من واجبي ان أنبه وأوضح واحذر، ومن واجبنا جميعا التفكير والاجتهاد الجاد، بعيدا عن لعبة الاستقطاب المدمرة هذه... ومن باب التفكير والاجتهاد، نقول ان واجبنا ان نعيد تأكيد هدفنا القومي الجامع المشترك لكل ابناء الوطن... ألا وهو بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية، على اسس من العدل والمساواة في الحقوق والوجبات من دون تفرقة بسبب الجنس أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. فإن اتفقنا على الهدف فإن من واجبنا ان نناقش عبر حوار وطني مفتوح، أساليب تحقيق هذا الهدف... وأثق ان من أول واهم الاساليب اعادة بناء الانسان، من خلال اعادة تشكيل وتطوير المنظومة الثلاثية المعروفة، التي طالما كتبنا عنها، وهي منظومة التعليم والثقافة والاعلام، التي نعرف جميعا انها مصابة بأصل الداء ومكمن البلاء، بعد ان اصابها التخلف وربما التطرف والاعوجاج. وبالتوازي اعتقد ان المطلوب الآن في ظل الانفراجة الديمقراطية الراهنة، حتى لو كانت محدودة هو ادارة حوار وطني واسع يشارك فيه الجميع بمساواة عادلة، ينتهي بوثيقة وطنية جامعة وملزمة، تؤكد الالتزام المطلق والمتبادل بين الحاكم والمحكوم بين الدولة والمجتمع، بين القوى السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة على ان اعادة بناء الدولة الحديثة والوطن الحر الديمقراطي يقوم على اسس قديمة جديدة، مثل اقرار حقوق المواطنة، واطلاق الحريات للجميع من دون استثناء، واحترام حقوق الانسان وفق المعايير الدولية، وتحرير العمل السياسي وحق التنظيم والانتماء وحرية الرأي والتعبير والصحافة من القيود المعرقلة، وبث الروح في منظمات المجتمع المدني المختلفة، والايمان بالقاعدة القرآنية الهادية والموجهة "لكم دينكم ولي دين..." "الكافرون: 6" ليس من باب الحلم الواهم أو الخيال الجامح، ان تقدم مصر على ذلك لتقدم النموذج الوطني الديمقراطي بدلا من اسقاطها في غيابات الجب السحيق!
خير الكلام
يقول أحمد شوقي: جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي أل
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1160 - الثلثاء 08 نوفمبر 2005م الموافق 06 شوال 1426هـ