الفوضى التي اندلعت في ضواحي باريس ولاتزال مستمرة منذ أكثر من 12 يوما تعيد طرح السؤال بشأن مسألة الاقليات "الجاليات" الاجنبية في أوروبا وعجز الانظمة "الديمقراطية" و"العلمانية" عن حل المشكلة. فهذه المشكلة كانت أوروبا تتباهى امام العالم بأنها لا تعاني منها وتنتقد انظمة العالم الثالث عليها. الآن تحولت إلى معضلة دولية تعاني منها تلك البلدان المتقدمة. ما تعاني منه ضواحي باريس والكثير من مدن أوروبا يشبه تلك المشكلات التي تعاني منها دول العالم الثالث وخصوصا الانظمة الشمولية والاستبدادية. المشكلات متشابهة وليست بالضرورة متطابقة. فهناك فروقات وتباينات ولكن جوهر المسألة يطرح السؤال نفسه: لماذا فشلت الدول المتقدمة في السيطرة على مشكلة الاندماج "الصهر" وتطويع الجماعات الأهلية المختلفة، وتذويبها في المجتمعات المتجانسة في دينها وقوميتها ولونها ولغتها؟ المسألة اذا معقدة ومن الصعب الاجابة عن جوانبها المتعددة بإعادة تبسيط المشكلة وربطها آليا بطبيعة النظام السياسي وما حققه أو لم يحققه من تقدم على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فالمسألة ليست بسيطة إلى هذا الحد حتى يتم الرد السريع على ما تطرحه من تحديات وتداعيات. والمعضلة لا تنحل ببساطة ومن خلال ضمانات معيشية ورعاية صحية. هذا جانب من الحل الا أن هناك جوانب اخرى تتصل بالاجتماع الاهلي وما يعنيه من خصوصية لها علاقة بالدين والثقافة والتقاليد واللون واللغة. وهي تفصيلات قد تبدو غير مهمة لأصحاب النظريات "الحداثية" و"العلمانية" ولكنها مهمة على مستوى الواقع الانساني وعلاقات البشر اليومية وانعكاسات تلك النظرة المختلفة ووقعها السلبي في رؤية كل فريق للآخر. مسألة الهوية نقطة جوهرية في تأسيس الاختلاف ورسم خريطة طريق لسلسلة تباينات وتمايزات بين كتلة بشرية واخرى. فالفشل في تحقيق الدمج "الانصهار" لا تتحمل بالضرورة مسئوليته الدولة وحدها. وأيضا الفشل في تجاوز الاختلاف بين البشر لا تتحمل الاقلية مسئوليته وحدها. مسألة الهوية مهمة واحيانا تتحمل الاكثرية مسئولية الفشل بسبب وجود مشكلات متوارثة أو طارئة تسهم في رسم حدود الكراهية وعدم الثقة بين الناس والمجموعات الاهلية الوافدة من الخارج. فهذه النقطة المتصلة بمفهوم الغرباء "الغريب عن المجتمع المتجانس" تحفر مع الوقت حواجز اهلية/ نفسية تفصل المشاعر وتفرق بين البشر وتجعل الاجنبي "الغريب" مكسر عصا لكل الازمات الاجتماعية والاقتصادية. فالمختلف في هذا المعنى يصبح من الاهداف السهلة ويتحول إلى متهم دائم ويحمل مسئولية انهيار الأمن أو انتشار الجرائم الاجتماعية والسرقات. الغريب "الاقلية" دائما هو الضحية وهو الطرف المشكوك في امره واحيانا تراقبه الدولة وتلاحقه الاجهزة لا لسبب جوهري وانما لأنه "غريب". وهذا يعني انه غير مؤتمن ومشبوه ومتهم حتى لو اثبت احترامه للقانون وأكد براءة جنسه من كل ما يثار بشأنه من التباسات ظنية. ما يحصل في ضواحي باريس ليس مجرد مشكلة تتصل بالأمن أو العدالة. فهذه نقاط تخفف كثيرا من المعضلة الا أن هناك جوانب اخرى منظورة ويصعب تغييرها أو تعديلها بسهولة وهي تلك المتعلقة بموضوع الهوية . تحسين المعيشة وتوفير فرص العمل وتطوير احياء المدن وضواحيها كلها خطوات عاقلة تساعد على تخفيف التوتر ومشاعر العزلة والانطواء الا أنها خطوات ليست كافية وخصوصا حين تتخذ الدولة سلسلة قرارات خطيرة لا تقل عنصرية في جوانبها الثقافية والتعليمية والاعلامية عن نزعات التفرقة العرقية التي اسستها الحركات الفاشية والنازية. الدولة الفرنسية ارتكبت في السنوات الاخيرة مجموعة اخطاء ضد المجموعات الاهلية وخصوصا حين استهدفت في قراراتها تلك الجوانب المتعلقة بالهوية. وحين تنتقل الدولة من مرجع دستوري يعالج الازمات إلى طرف سياسي ضد الغرباء "الاقليات المختلفة"، تعطي الذريعة للجماعات الاهلية بالرد وتنظيم هجوم للدفاع عن الهوية. المشكلة إذا اعقد من تحسين مستوى المعيشة. إنها بكل بساطة تتصل بمسألة احترام الاختلاف وعدم احتقار هويات الجماعات الاهلية... وهذا ما تجاوزته فرنسا اخيرا باسم "العلمانية" وحماية الدولة من لوثة الغرباء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1160 - الثلثاء 08 نوفمبر 2005م الموافق 06 شوال 1426هـ