رقمان جديدان نبها الرأي العام العالمي قبل أيام قليلة مرة جديدة بشأن استفحال الوضع الأمني في العراق بعد مضي أكثر من عامين على احتلاله من قبل تحالف تقوده الولايات المتحدة: من وجهة نظر الاحتلال الأميركي والبيانات "الرسمية" التي أعلنتها وزارة الدفاع في واشنطن، بلغ عدد الجنود الأميركيين الذين سقطوا على أرض العراق منذ إعلان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش نهاية المعارك الرئيسية في الأول من مايو/ أيار ،2003 ألفي جندي. بعد يوم واحد على صدور هذه المعلومات وردت من العراق أنباء تحدثت عن مقتل 15 جنديا خلال أسبوع. في البيانات التي قدمتها "البنتاغون" إلى الكونغرس جاء أنه في الفترة من 1 يناير/ كانون الثاني 2004 حتى 16 سبتمبر/ أيلول 2005 بلغ عدد ضحايا الحرب من العراقيين المدنيين وقوى الأمن 25902 ما بين قتيل وجريح. وفقا لهذه الإحصاءات التي لا تعتبر دقيقة ورد مقتل 6475 من العراقيين. عملية حسابية توضح سقوط 26 قتيلا عراقيا يوميا في الفترة التي تلت غزو العراق، وزاد هذا المعدل إلى 63 قتيلا في أغسطس/ آب الماضي. مراجع صحافية ألمانية مقربة من واشنطن اعترفت بطعنها صحة هذه الأرقام، وقالت إنها واثقة بأن عدد الضحايا في أوساط المدنيين عناصر الأمن العراقيين أكبر بكثير، وتستند بذلك إلى الأنباء الواردة يوميا من العراق التي تكشف عن حصيلة الموت يوميا. هذا ما تسجله بعناية منظمة بريطانية غير حكومية تطلق على نفسها اسم Iraq Body Count مختصة بحصر أعداد الضحايا الذين يسقطون يوميا في حرب العراق وتعتمد على جمع معلوماتها من الأنباء التي توردها وكالات الأنباء العالمية من العراق، إذ وفقا لحساباتها بلغ عدد ضحايا غزو العراق حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ما بين 26742 و30098 قتيلا من المدنيين فقط. على أية حال، فإن هذه الأرقام تكشف بما لا داعي للشك أن الولايات المتحدة وقوى الائتلاف التي تتزعمها في العراق، تواجه صعوبات جمة بعد أكثر من عامين على الإطاحة بنظام الرئيس السابق صدام حسين، وأنها غير قادرة على فرض سيطرتها بالكامل على هذا البلد. بعض الخبراء المختصين بالقضايا العسكرية في واشنطن مثل أنتوني كوردسمان من مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، وغيره، أشاروا في الأسابيع القليلة الماضية إلى أنه أرقام ضحايا الحرب تعكس فشل الاستراتيجية العسكرية التي تعمل بها الولايات المتحدة في العراق، وأن القوات الأميركية وحلفاء واشنطن يواجهون صعوبات كبيرة في العراق. من ضمن الأمثلة التي ركز عليها كوردسمان فشل العمليات العسكرية الكثيرة التي قامت بها القوات الأميركية والقوات العراقية خلال الأشهر الأخيرة في مناطق السنة مثل الفلوجة أو تلعفر في الجزء الشمالي من العراق. في تقرير وضعه كوردسمان خلال سبتمبر نفذ الأميركيون مداهمات من دون حيازتهم على معلومات محددة بشأن الأماكن التي اقتحموها، الأمر الذي جعل من الصعب عليهم التفريق بين العدو والصديق وتسببت هذه الإشكالات في وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين العزل، ما زاد مشاعر النفور والعداء ضد الجنود الأميركيين في أوساط المواطنين العراقيين. كما أوضح كوردسمان في تقريره أنه لا يمكن في الوقت الحالي الاعتماد كليا على عون مثالي لقوى الأمن العراقية التي يبلغ عدد عناصرها اليوم 183 ألف عنصر. وجاء في تقارير أميركية أخرى أن أجهزة الأمن العراقية مازالت غير مؤهلة لتنفيذ عمليات عسكرية من دون مساعدة من القوات الأميركية، وخصوصا من الجو. في جلسة نقاش أمام لجنة تابعة للكونغرس اعترفت وزارة الدفاع الأميركية أن وحدة فقط من أصل 110 وحدات تابعة للجيش العراقي الجديد تستطيع القيام بعمليات عسكرية باستقلالية تامة عن القوات الأميركية. وهناك نحو 30 عسكريا عراقيا على استعداد للقيام بعمليات ضد من يوصفون بالمتمردين فقط إذا حصلوا على دعم من جنود وطائرات حربية وخدمات الإسعاف من الجانب الأميركي. يضاف إلى ذلك العرقيات التي ينتمي إليها عناصر الأمن الذين لا يجرأون على الوشي بمعارفهم وأقاربهم إذا كانوا ينتمون للمقاومة، بل منهم من يحذرهم ويزودهم بمعلومات. لذلك لم تسجل قوات الائتلاف الموحد بقيادة الولايات المتحدة حتى اليوم عملية ناجحة واحدة. هناك تطور جديد أشار إليه "تقرير كوردسمان" الذي قال: "ان المقاومة العراقية غيرت استراتيجيتها بشكل واضح في المدة الأخيرة، إذ عوضا عن شن هجمات مباشرة ضد قوات الائتلاف لهدف دفع حكومات دولها على سحبها من العراق، تركز المقاومة هجماتها بقوة ضد مؤسسات الحكومة العراقية وأجهزة الأمن لتعطيل العملية السياسية الحاصلة في العراق وتوفر الاستقرار والأمن". ويرى التقرير "أن من يوصفون بالجهاديين أي الجماعة المحسوبة على أبو مصعب الزرقاوي، لا يريدون بأي حال تحقق الأمن والاستقرار في العراق ويرون مهمتهم في استمرارية أجواء التوتر والذعر لهدف إغراق العراق بحرب أهلية كخطوة تمهد لقيام دولة إسلامية. ما يميز جماعة الزرقاوي عن خصوم الحكومة العراقية والأميركيين أنها خصم صعب للغاية ليس بالوسع التفاوض مع قادتها، كما ليس من السهولة بمكان القضاء على أتباعها وإذا تم تصفيتهم جسديا فإن أيديولوجيتهم قابلة للاستمرار في الحياة". حتى وزارة الدفاع الأميركية لا تملك أرقام قاطعة عن عدد "الجهاديين" في العراق. كثير من المراقبين يعتقدون أن عددهم لا يشكل أكثر من نسبة 5 إلى 10 في المئة من المتمردين الذين يتراوح عددهم بين 15000 و65000 شخص أي أن عدد الجهاديين يبلغ نحو 6 آلاف. وفقا لتحليلات خبير تابع للبنتاغون فإن الجهاديين لا يتمتعون بتدريب عسكري جيد، وهم عبارة عن متطوعين ينتمون لعدد من البلدان الإسلامية، والذين أتوا إلى العراق لمحاربة الأميركيين وتنفيذ عمليات استشهادية، الأمر الذي تؤكده البيانات التي تنشر باستمرار على مواقع مقربة من جماعة الزرقاوي وتنظيم "القاعدة" والتي كشفت أن غالبية عمليات تفجير السيارات المفخخة التي حصلت في العراق من عمل الجهاديين. كل ما يجري في العراق أصبح له صدى في الولايات المتحدة تماما كما حصل خلال حرب فيتنام. استمرار الحرب في العراق من أبرز أسباب التراجع الحاد في شعبية الرئيس بوش وإدارته. لا يختلف المراقبون في الغرب على أن المشكلة التي تواجه بوش منذ فوزه في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2004 بولاية ثانية هي كيفية الخروج من المأزق العراقي. باستثناء بريطانيا وبولندا ليس هناك دولة أخرى تؤيد سياسة واشنطن في العراق. وعلى رغم أن الموقف الرسمي الأميركي يتحدث عن رغبة إدارة بوش خفض عدد جنودها المتمركزين في العراق والبالغ عددهم اليوم 140 ألف جندي، وذلك حالما تستطيع القوات العسكرية العراقية قادرة على فرض الأمن في البلاد، إلا أن صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية المفضلة عند بوش، ذكرت في مستهل الشهر الحالي نقلا عن قادة عسكريين أميركين في العراق، أنهم يحبذون لو تجري زيادة عدد الجنود الأميركيين في العراق لأن المهمة لم تتم بعد. وفقا لتحليلات هؤلاء المسئولين العسكرين فإن التجارب دلت على أن خفض عدد الجنود الأميركيين في العراق يشجع المقاومة العراقية على زيادة هجماتها، ويؤدي بالتالي إلى استفحال عدم الاستقرار. كان هذا واضحا حين شهدت مدينة الموصل أعمال عنف واسعة على إثر استبدال الفرقة الجوية البرية في يناير العام 2004 التي كانت تراقب أجواء شمال العراق بفرقة صغيرة. كما نصحت مؤسسة أميركية تقدم استشارات أمنية لإدارة بوش بزيادة عدد القوات الأميركية في العراق. ودلت دراسة عما يسمى مهمات حفظ السلام الأميركية في العالم أن غزو العراق كان يحتاج إلى 512 ألف جندي. كما أن مقارنة الخسائر البشرية في صفوف الجيش الأميركي في العراق مازالت أقل بكثير عن مثيلها في الحروب السابقة. العدد الأكبر من الخسائر منيت به الولايات المتحدة في الحرب الأهلية التي بدأت العام 1861 "364500" ثم في الحرب العالمية الثانية "405399" وحرب فيتنام "58209" لذلك فإن سقوط ألفي جندي، والرقم يزيد يوميا، يعتبر متواضعا جدا أمام الأرقام السالفة الذكر. أكبر معارض لزيادة عدد القوات الأميركية في العراق هو وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي عارض رأي جنرالات أميركيين طالبوا بزيادة عدد الجنود في حرب العراق وأكد أهمية سياسة التفوق التقني العسكري الذي يقوم على رمي القنابل الثقيلة من الجو وترك المهمة على الأرض لفرق خاصة صغيرة تتعاون مع ميليشيات وجيوش محلية كما هو في أفغانستان، إذ لا يزيد عدد الجنود الأميركيين عن 20 ألف جندي. الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وأحد أبرز منتقدي نهج الرئيس بوش قال في مقابلة مع محطة "سي إن إن" يوم الخميس الماضي: هذه الحرب على عكس حرب أفغانستان لم تكن ضرورية وعلينا أن ننسحب من العراق لكن كتب علينا أن نسعى بعد ارتكابنا خطأ الحرب أن نعمل من أجل استتباب الأمن والاستقرار في العراق وترك العراقيين يقررون مصيرهم بأنفسهم".
العدد 1159 - الإثنين 07 نوفمبر 2005م الموافق 05 شوال 1426هـ