في مثل هذه الأيام من العام ،2000 كانت البلاد تمور بالتطورات، اجتماعات ولقاءات من كل نوع للتداول في أفكار أولى تمت بلورتها فيما بعد في ميثاق العمل الوطني. اليوم، عندما تتداعى الذكريات في ذهني لربما أجدني أردد في دواخلي: ما الذي فعلناه؟ يشاركني في هذا الكثيرون، فلقد أصبحنا نعيش في قلب التوتر النفسي من حركة متسارعة تأتي بكل ما هو متوقع وغير متوقع. في النهاية سنردد: هذه هي الديمقراطية. حيوية ومبادرات وآراء يتم التعبير عنها بحرية وحرية في التنظيم والدفاع عن المصالح. وإذا جاز لنا أن نرد جرعات التوتر هذه إلى طبيعة المراحل الانتقالية في حياة الشعوب والمجتمعات، لن يبقى لنا سوى محاولة الاطمئنان إلى أن هناك إدراكا مسبقا بطبيعة هذه المرحلة والأهم توافقا بالحد الأدنى على المستقبل. هذا لا يعني الحكومة فقط لأنه وظيفتها الأساسية بل يشمل الناس وتياراتهم السياسية وقادتهم وزعماءهم والناشطين وذلك الجسم الهلامي الذي اصطلحنا على تسميته المجتمع المدني. نقطة البداية هنا هي اتفاق حد أدنى يشمل بالدرجة الأولى الحريات بكل أنواعها: العامة والفردية. حتى الآن ليس لدينا شيء من هذا. أكثر ما يقلقنا هنا هو أننا طيلة السنوات الثلاث الماضية لم نظهر إلا أسوأ ما فينا إلى الحد الذي بات فيه الكثيرون يرددون أحيانا: لتذهب الديمقراطية إلى الجحيم. لكن بعض صور هذا الجحيم لاحت أكثر من مرة ومازالت تخيم على أذهاننا مع هذا الصعود المتوالي للنزعات الفاشية. لقد لمسنا ذلك أكثر من مرة مع برلمان انشغل بعض نوابه بملابس الناس أكثر مما انشغلوا بحرياتهم. وبدلا من العمل على ترسيخ الحريات، لمسنا كيف أن هذا الهوس لا يلف هؤلاء النواب فقط بل تيارات عريضة تشمل تيارات معارضة أيضا. ما الفارق إذا وما المقياس في التصنيف بين موالاة ومعارضة؟ ليست الحريات بالتأكيد هي المقياس الأهم، فالحريات مثلها مثل مفاهيم أخرى أساسية أصابها الاجتزاء والتشظي وباتت تملك أكثر من معنى حسب قائلها. لقد شهدنا على مدى السنوات الثلاث الماضية محطات تأزمت فيها الأوضاع إلى الحد الذي دفعنا للخوف والقلق على الإصلاحات نفسها ولازمنا الخوف من الانتكاس والنكوص. صدامات في الشارع وقنابل مسيلة للدموع، هيبة الحكومة كانت على المحك أكثر من مرة، كبرياء المعارضة كانت على المحك، كرامة الناس كانت على المحك. أداء لا يرقى للطموح من قبل الجميع: الحكومة، المعارضة، التيارات السياسية، الزعماء القدامى وأولئك الجدد. تصاعد في النزعات الفاشية والاقصائية وعداء متصاعد للحريات الفردية باسم الدين والأمن وتحت عناوين شتى. احتجاجات النساء، مشكلات عالقة ماتزال تنتظر الحل وتهدد بتأزيم الوضع. محاكمات لا تتوقف للصحافيين وكأن حرية التعبير باتت عبئا ثقيلا على الجميع: الحكومة والمعارضة والناشطين وكل من سارع إلى تقديم البلاغات إلى النيابة العامة ضد صحافيين لم يفعلوا سوى أن عبروا عن رأيهم. ثمة اعتقاد سائد هنا أن الشخصيات العامة تعتبر نفسها فوق النقد وهذا مؤشر على فاشية وعصاب لا يقودنا إليه سوى هذه المطالبة المستمرة بالديمقراطية والتبرم منها عندما تمسنا. على رغم هذا، لمسنا أيضا أن هناك تقدما وان كان بطيئا في التعامل مع هذه العثرات. لكن يقلقنا تردد الحكومة في الدفاع عن الحريات الفردية. فهي لا ترد على ضجيج الحشمة بأن الناس أحرار في اختيار ملابسهم وتصرفاتهم وان الحريات الفردية ركن أساسي في الدستور، بل تقول أن فصل الجنسين في الجامعة مكلف اقتصاديا. شهدنا جدلا آخرا حول الولاء والوطنية. فرفع أعلام حزب الله وصور القادة الروحيين لمواطنينا الشيعة بإمكانه أن يستثير أسوأ المخاوف. على رغم هذا فإن أول من تصدى لرفع أعلام حزب الله وترديد هتاف الولاء الشهير كان ذلك الشيخ الراقد على سريره الآن: الشيخ عبدالامير الجمري. إذا كان هذا سيقودنا لأي استنتاج، فهو أن هتافا كهذا يبقى مفتعلا ناتجا عن ردة فعل آنية لأن ثمة إدراكا مسبقا بعواقبه من قبل جمهوره نفسه. دعونا نتساءل الآن: متى كانت آخر مرة شاهدتم فيها أعلاما لحزب الله ترفع بكثافة مثلما كان الأمر قبل عامين وأكثر ودفعت مراسل تلفزيون "المنار" يصرخ قرب السفارة الأميركية في ابريل/ نيسان 2002 "كأنني في الضاحية الجنوبية"؟ الخلاصة الوحيدة التي سيقودنا إليها التأمل هنا هي أن ترسيخ الحريات كحقيقة يومية معاشة وملموسة ومقنعة بإمكانه معالجة كل أشكال الشطط، لكن لابد من التقدم. لابد لنا من استعارة هذه العبارة المدرسية: "مشكلات الديمقراطية تحل بالمزيد من الديمقراطية". أضيف هنا: "لا بالتضييق عليها". كل هذا سيبقى في إطار طبيعي طالما اننا نتحدث عن ظواهر تتجه للعقلنة على رغم إنهاكها لأعصابنا واستثارتها لأسوأ المخاوف، لكن أسوأ ما أفرزته هذه السنوات الثلاث يبقى كابوسا غير محتمل: ترسيخ الطائفية كمقياس يسبق المواطنة. هذا لا يعني تلك المحاولات لمحاكاة آليات اعتادها المواطنون الشيعة، بل يعني الشيعة أنفسهم بقدر متساو. بل الأصح يعني الجميع. لقد آن الأوان للتفكير في ما تناساه الشيعة والسنة وسائر المواطنين والحكومة أيضا: ترسيخ المواطنة لا الطائفة. لكن هذا يحتاج إلى تفكير من نوع جديد وزعماء وناشطين يفكرون بطريقة مغايرة أن لم اقل استثنائية. استثنائية لأن ما نراه ليس سوى العادي والمألوف والطبيعي في حين أن قيادة الناس والأوطان وبناء المجتمعات والتقدم يحتاج لأناس استثنائيين دوما. إن لم نشاهد أو نلمس أي بادرة في هذا الميدان، سيكون من حقنا أن نتساءل ما إذا كان الإصلاح والانفتاح لم يفعل سوى أن دفعنا لإظهار أسوأ ما فينا. لحظتئذ إن سمعتم أحدا يقول: لتذهب الديمقراطية إلى الجحيم لا تلوموه كثيرا.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1159 - الإثنين 07 نوفمبر 2005م الموافق 05 شوال 1426هـ