كثر الحديث هذه الأيام عن ضرورة إيجاد ضمانة دستورية تكفل عدم قابلية مواد قانون الأسرة المزمع سنه على التعديل، او على الأقل اقتصار تعديله على علماء الشرع. ويبدو أن هذا الطرح انطلى على بعض الناشطين والناشطات في المجال الاجتماعي، وصاروا يرددون أن موافقتهم على إصدار قانون أحكام الأسرة مرهون بإجراء تعديل دستوري يتضمن إضافة مادة دستورية تنص "على ان قانون أحكام الأسرة غير قابل للتعديل إلا طبقا للإجراءات التي تطبق عند تعديل أي نص من نصوص الدستور" وان هذه الضمانة غير قابلة للتعديل أسوة بالمادة الثانية من الدستور. ونحن مع تمسكنا الصادق والثابت بان تنبع أحكام قانون الأسرة من الشريعة السمحاء، وألا يخالف القانون أحكامها، إلا انه لا يسعنا الا ان نعد هذه الدعوة "أي توفير الضمانة الدستورية" محاولة لعرقلة إصدار القانون، وذلك لعدم إمكان اعتبار أحكام الأسرة أحكام دستورية. إذ إن من المسلم به في الفقه الدستوري والسياسي هو ان الدستور لا يتضمن الا أحكاما دستورية، أي تلك المسائل التي تعتبر في جوهرها وطبيعتها دستورية، والتي تتمثل بكل ما يتصل بنظام الحكم، والدولة، وتنظيم السلطات العامة، وقضايا السلطة، والحرية، والمبادئ التي تحكمها. ولم نسمع أو نقرأ أن دولة واحدة في العالم اعتبرت أحكام الأسرة من قبيل الأحكام الدستورية. إن ما يتم تداوله في شأن هذه المسألة، وأحيانا في شأن مسائل أخرى هو العجب العجاب، والذى لا يمكن ان ينم - دائما - عن سوء فهم، وإنما قد يكون الهدف من ورائه السعي الى تحقيق أهداف أخرى. إن الضمانة التى يطلبونها موجودة في الدستور، الا وهي المادة الثانية من دستور المملكة المعدل للعام 2002 والتي تنص على ان "دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع..." ومقتضى هذا النص، انه يشكل قيدا على السلطة التشريعية بان لا تصدر أي تشريع مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء. وأي نص لا تتوافر به هذه المواصفات يعتبر نصا غير دستوري، وبالتالي ابطاله عن طريق المحكمة الدستورية. وكما ان الذكرى تنفع المؤمنين، فانه يجدر التذكير ببعض الأمور التي قد تكون غابت عن ذهن البعض، أو انه يروج بخلاف ما تقضي به، بهدف تحقيق ما عجز عن تحقيقه بوسائل أخرى، منها ان القانون الدستوري يمثل قمة النظام القانوني في الدولة، ويعتبر الأساس والمقدمة الضرورية لجميع القوانين، وبالتالي فهو لا يخاطب الأفراد بصورة مباشرة، وانما يضع القواعد والأسس التي تستند إليها القوانين، التي تخاطب الأفراد بصورة مباشرة، وتكون قابلة للنفاذ في مواجهتهم، ومخالفتها تؤدي إلى إيقاع الجزاء الذي تضمنه عليهم. ومن هنا فان الدول تستطيع ان تعيش بدون دساتير مسطورة، لكنها لا تستطيع ان تعيش بدون قوانين مكتوبة، وذلك ان الدساتير ما وجدت الا لتنظيم عمل السلطات الثلاث وما تقوم به من تصرفات، لانها وحدها التي تصدر القوانين والأنظمة والقرارات، ودور الدستور هو قيد عليها، بان لا تعمل الا في إطاره، والا تتخذ أي إجراء مخالف له. اذن، الضمانة التي يتحدثون عنها موجودة في صلب الدستور، ولا يستطيع أي كان ان يضع قانونا مخالفا لأحكام الشريعة، أو ان يتعمد إلى تعديل نص قائم بالمخالفة لما تقضي به أحكامه. وهذا ما سارت عليه البحرين ومنذ تضمين هذا النص في دستور العام ،1973 بل ومنذ دخلت البحرين في الإسلام، لان العقيدة مترسخة في النفوس قبل ان تتضمنها النصوص. وبذلك فان لي الاعتبارات الدستورية، وخلق اعتبارات وأفكار لا أساس لها لا في علم ولا في واقع، هو الذي أربك الساحة الشعبية، وجعل البعض وتحت تأثير هذه الدعاوى الباطلة يصدر فتاوى ومواقف معارضة - للأسف - لإصدار قانون الأحكام الأسرية. إن المطالبة بإضافة نص إلى الدستور يجعل قانون الأسرة غير قابل للتعديل، او تعديله مرهون بموافقة علماء الدين مناقض لما استقر عليه الفقه الدستوري، لان السلطة الوحيدة المناط بها إصدار القوانين هي السلطة التشريعية ،وليس لها حتى وان أرادت ان تتنازل عن هذا الاختصاص. ولو أرادت هذه السلطة ان تضع قانونا للأسرة لوضعته، لان الدستور والقواعد المستقر عليها عالميا تعطيها ذلك، غير ان إدراكها - وبحق - ان أحكام الأسرة تنبع من الشريعة الإسلامية هو الذي دفع أولى الأمر الى اللجوء الى علماء الدين، حتى ان صوغ هذا المشروع تمت من قبلهم، ولن يتم تعديل أي نص من نصوصه اذا ما صدر من دونهم، هذه هي الحقيقة لمن يريدها. اما وضع العصا في الدولاب فهو رفض مغلف بمبررات واهية لا تسندها الاعتبارات العقلية ولا الأدلة المنطقية ولا النظريات القانونية ولا حتى السياسية المستقرة، ولا تصدر الا عن أصحاب الغرض، الذين يسعون الى تحقيق غرض غير الغرض المعلن. فكيف يستقيم القول إن يتم إصدار قوانين لاحقة على إصدار الدستور، ثم يتم تعديل الدستور لإضفاء الأبدية على نصوصها، وكيف يستقيم القول بتحويل نصوص قانون إلى نصوص دستورية، لا علاقة له بها، وليس من طبيعتها! أليس في ذلك قلب للقواعد الثابتة، وعكس للعلاقة بين القانون والدستور، وخلافا لما يقضى به الفقه الدستوري. إن كل هذه الدعاوى باطلة، لأنها مخالفة للقانون، ذلك ان إضافة مادة إلى الدستور لكيفية تعديل وأبدية تقنين الأسرة يتعارض مع المبدأ العام الذي سطره الدستور في كيفية سن القوانين وتعديلها. فهذه إضافة لا تجوز إلا إذا الغي المبدأ العام، وعلى ما سبق بيانه وتفصيله في تصريح سابق. ونحن نخشى أن هدف هذه الدعاوى هو تعطيل إصدار قانون الأسرة، او انها تسعى لتحقيق مآرب أخرى، وفى كلتا الحالتين، هي غير مقبولة، لأنه ببساطة لا يمكن رفع قوة القانون العادي إلى الدرجة الدستورية، لان لكل منهما مهمة مختلفة، وإلا أصبح إصدار الدساتير والقوانين مجرد عبث . ان من يبحث عن الضمانة الدستورية "نقول له" إنها موجودة، منصوص عليها في الدستور، وموجودة كذلك في ضمائر الناس وفي نفوسهم، ولا يستطيع كائن من يكون أن يضع نصا مخالفا لأحكام الشريعة في قانون الأسرة لا في الحاضر ولا في المستقبل. وإذا كان بعض علماء الدين يرون ان في الضمانة ضرورة لحفظ الدين كما يصرحون فان الدين باق ما بقي القرآن الكريم انزله الله تعالى وحفظه حتى يرث الأرض ومن عليها، وإذا كان علماء الأمس واليوم حفظوا الدين وذادوا عنه فلن يكون علماء الغد بأقل منهم، فلماذا الإصرار إذن على وصفهم ودمغهم بأنهم عملاء المستقبل؟ ألا يحق لنا أن نتساءل، إلى متى يستمر امتهان المرأة والحط من مكانتها تحت ذرائع لا تستند إلى بنيان؟ ونتوجه بندائنا إلى العلماء بأن لا ينسوا مسئولياتهم الآنية من اجل حماية مسئوليات في المستقبل، هي محمية بهم، وبالنصوص، وبرسوخها في النفوس، وندعوهم إلى المساهمة في إصدار القانون لأنه أصبح حاجة ملحة، ومطلبا شعبيا للنساء والرجال على حد سواء، وإلا نترك مصائر الناس بين أيدي أفراد، يصيبون مرة ويخطئون مرات، وندعو كل من يعنيهم الأمر إلى الإسراع في إبراء ذممهم أمام الله، ولا ينساقوا وراء مجرد أقوال، وأن يتحروا الحقائق، وأن يعملوا بموجبها. وأخيرا، وقد انتهت المرحلة الأولى وهي المرحلة الإعلامية من الحملة الوطنية لتقنين الأحكام الأسرية بنهاية شهر رمضان الكريم، كما هو معد ومعلن عنه من قبل، وأثمرت هذه المرحلة من خلال الرصد والمتابعة والتقييم إلى تحقيق الهدف المعلن عنه وهو تعريف المواطنين بتقنين الأحكام الأسرية وضرورته المجتمعية، طبقا لتوصيات الدراسة الاستطلاعية التي أعدها مركز البحرين للدراسات والبحوث، كما والأهم التقاء جميع الأطراف بمن فيهم علماء الدين من المذهبين بشأن وجوب صدور التقنين مستمدا من قواعد الشريعة الإسلامية الغراء - الشريعة الإلهية العادلة - ولم تبق سوى الضمانة الدستورية محلا للحوار المباشر والعاقل والهادف والبناء بعيدا عن المظاهرات والمزايدات. وهو ما دعا إليه المجلس وكان يأمل بان يكون الرد بمثله ان لم يكن بأحسن منه فالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة من شيم المؤمنين والمؤمنات. وخصوصا ان المجلس الأعلى للمرأة يرحب بالشعار القائل "شريعة إلهية عادله = وطن آمن" لاتفاقه مع أهداف الحملة الوطنية لإصدار قانون الأحكام الأسرية ولتوصيات مركز البحرين للدراسات والبحوث جوهر الحملة الوطنية. إن الرأي والرأي الآخر هما جناحا الديمقراطية وبغيرهما لن تستطيع أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب
إقرأ أيضا لـ "لولوة صالح العوضي"العدد 1159 - الإثنين 07 نوفمبر 2005م الموافق 05 شوال 1426هـ