العدد 2985 - الأحد 07 نوفمبر 2010م الموافق 01 ذي الحجة 1431هـ

من التاريخ الأوروبي: مُلُوكٌ ومُثقفون يقودون التسامح الديني

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُربَط التسامح الديني عادة بالأمن الاجتماعي والسّلم الأهلي. وكنتيجة طبيعية يدفع النقيض من ذلك إلى الهزَّات الأمنية العنيفة، وصياغة العلاقات الإنسانية بين البشر طبقاً لمفاهيم الأكثريات والأقلّيّات، واحتكار الحق والمشروعية في السيادة وفهم النصوص، وصلة الأطراف ببعضها البعض بشكل متوتّر وحاد ومرهون بميزان القوى القائم.

وحين تتمّ دراسة المجتمعات التي ترشَّدت فيها مسائل التسامح (وبالذات في المجتمع الأوروبي) فإن العبرة التي يجب أن تُسْتَقَى هي حجم الأكلاف التي دُفِعَت من أجل ذلك التسامح ومن أجل أن تتحول علاقات طوائف تلك المجتمعات من علاقات مُتَشَنِّجَة إلى علاقات هادئة. وخصوصاً إذا كانت تلك الأكلاف هي بحجم إراقة الدّماء، والاعتقال والتهجير. فهي أشدّ أنواع الأثمان التي يدفعها البشر عادة.

في كتابه القيِّم «تاريخ التسامح في عصر الإصلاح»، فإن جوزيف لوكلير يتحدث عن واحدة من أهم الحُقَب التي عاشتها البشرية فيما خصّ التسامح وما سبقها من ظروف عصيبة حدّدت ملامح القارة الأوروبية. وقد تحدّثت في مقال سابق عن ما قبليات بحث الكتاب، أو عن تأسيساته بدءًا من الحقبة الآبائية وبداية تكوين الجماعة المسيحية. ولأن هذا السِّفْر ثمين في فكرته وأرخنَتِه فإنني أتحدث اليوم (بالاعتماد عليه) عن الحقبة الوسيطية وما تلاها والتي تعنينا أكثر من غيرها.

ففي هذه الفترة وبعد تمكّن المسيحية من أقطار واسعة من العالَم وتبنّي إمبراطوريات لها فإنها شهِدَت أفظع أنواع الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية وما كان يُطلق عليه حينها بـ الهراطقة و»فرض الوحدة الدينية مع إنشاء محكمة التفتيش في القرن الثالث عشر»، حسب وصف الكاتب. قبل ذلك قام الملك الإفرنجي شالمان بإصدار أمره الملكي بحق شعب الساكس لاعتناق المسيحية تحت طائلة حكم الإعدام. وهكذا فعلت الحملات الجرمانية بعده بحق شعوب السلاف وجنوب بحر البلطيق والبروسيين والفنلنديين والليتوانيين.

لقد امتدت هذه الصيغة الغليظة في التعاطي مع الهراطقة والجماعات المسيحية الإصلاحية سنوات عدّة. إلاّ أن التحولات الفكرية والدينية التي رافقت الحُكّام والملوك جعلت من الأمور غير ثابتة. ومثلما تلبّس الرومان المسيحية بعد أن كانوا يُحاربونها، اعتنق ملوك آخرون في أوروبا أفكاراً على يسار المسيحية جعلت من نظرة الدولة في شقّها المَلَكِي إلى الأمور تتغيّر بشكل كبير. وحسبنا في ذلك الملك هنري الرابع ملك فرنسا الذي عمّد حكمه بقرار نانت في 13 أبريل/ نيسان من العام 1598 والذي اعتُبر كأحد أهم المنعطفات في المملكة الفرنسية عندما توخّى التسامح مع الحركات والجماعات المسيحية غير الكاثوليكية على أرضه.

لقد كان هنري الرابع قبل ذلك يقول «سأعمل بكل ما أوتيت من نفوذ وصدق نيّة على طرد جميع الهراطقة الذين تشجبهم الكنيسة من ولايتي والأراضي الخاضعة لسلطاني». لكنه وبعد قراره الشهير أقرّ فيه بالقول «نسمح لجميع المنتمين إلى الديانة المدعوّة مُصلِحَة، بالعيش والإقامة في جميع مُدن مملكتنا وأرجائها من دون أن يتعرّضوا إلى مضايقة».

الغريب أنه وفي فترات كثيرة، سَبَقَ الحُكّام القطاعات الشعبية وعدد كبير من طلائع المجتمع في تفهّم موضوع التسامح، ليس بالنسبة لـ هنري الرابع في فرنسا فقط وإنما حتى للملكة مارغريت وصية عرش النمسا ولو لِحِيْن. وفي الفترة التي أعقبت صدور قرار نانت، عارض برلمان باريس هذا القرار، إلاّ أن الملك خاطبهم بالقول «ما فَعَلْتُه خدمة للسلام، وأريد أن أكون مُطاعاً. المشترعون هم حقاً ذراعي اليمنى، ولكن إذا أدركت الغنغرينة هذه اليد اليُمنى وَجَبَ على اليُسرى قطعها» (راجع ذات الكتاب). كما أن المعارضة لقرارات التسامح امتدت حتى إلى الكرسي الرسولي بزعامة البابا كليمنس الثامن الرافض لمهادنة الهرطقة حينها.

وللعلم فإن العام 1566 كان المدخل الحقيقي للحريات الدينية في أوروبا. أي قبل أكثر من ثلاثين سنة من خطوة الملك هنري الرابع. في ذلك العام بدأ الكُتّاب والمثقفون يتحدثون بجرأة عن ضرورة إلغاء محاكم التفتيش، وعن إبطال الهرطقة بالحوار وليس بالعنف وأحكام الإعدام التي كانت تصدر بعدد حبّات الرمل. وقد سَبَقَ ذلك (قرار نانت) أيضاً أن أثبَتَ الكالفينيون حضورهم في اتفاق النبلاء، ورغم الحرب الدينية التي اندلعت في بارما إلاّ أن العلاقات الدينية التي أنتجتها التحركات الجريئة للإصلاحيين الدينيين قد أثبتت جدوائيتها بشدّة لاحقاً.

وبالتالي لم يكن تنبّه الحُكّام والملوك فقط إلى هذه الحقيقة، وهي ضرورات التسامح الديني داخل الدولة هو فيصل التغيير لولا دور الأدباء والفنانين والكتاب في ذلك. فالإصدارات والكتابات التي كان يُدوّنها أولئك النفر كانت إحدى أهم أدوات الصراع مع الراديكالية الدينية والسياسية على حدّ سواء ضد اليمين المسيحي. وربما كان بعض هؤلاء الكُتَّاب قد دخل في أتون الحركات الإصلاحية كما هو في حالة فيليب كاميراريوس وجان غيرهاد، الأمر الذي ساعد على شياع ذك الخط المناهض لليمين. ورغم أن أدوار أولئك الأدباء كانت تكميلية بالنسبة لأداء الملوك إلاّ أنها كانت محوريّة أيضاً.

أضف إلى ذلك، فإن الحرية التي كان يتمتّع بها طبقة النبلاء قد ساهمت في تعزيز الحرية الدينية بقوة أو المطالبة بها. مع الإشارة إلى ما كانت تتمتّع به المسيحية الأرثوذكسية (الشرقيّة) من قدرة على التعايش البيني للطوائف والعلاقة مع الآخر. وللأمانة التاريخية، فإن فرنسا وبولونيا كانتا أكثر البُلدان الأوروبية تسامحاً مع الفرق المسيحية منذ عهد سيغيسموند الثاني. بل إن بولونيا كانت ملجأً للهراطقة الذين فرّوا من اضطهاد الكنائس الأوروبية. وهنا نستحضر أيضاً مدى تأثير الأرثوذكسية الشرقية كوعاء ديني مُنفتح وغير متطرف على موضوع التسامح آنذاك.

في المُحصّلة، فإن قراءة هذا الكتاب «تاريخ التسامح في عصر الإصلاح» تُوضّح مدى أهمية دراسة الشأن الأوروبي خلال تلك الفترة، وخصوصاً أن العديد من المصادر التي اعتمد عليها الباحث، وكذلك الموضوعات المطروحة تكاد تكون غير متوافّرة في ترجمات عربية تتحدث عن التسامح الديني في أوروبا. مع الإشارة إلى قدرة الكتاب على عرض الموضوع على أنه نتيجة حتمية لصراع مرير ذاقه الأوروبيون طيلة قرون عديدة استوجب عليهم حقن الدم ورعاية الحقوق الشخصية، بالإضافة إلى انتصاره إلى أفكار جديدة تتعلق بحكمة بعض الملوك ودورهم الرئيسي في تغيير الثقافات المتطرفة داخل المجتمع.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2985 - الأحد 07 نوفمبر 2010م الموافق 01 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:09 م

      نقطة نظام

      شكرا للاخ محمد على هدا المقال النوعي
      قضية التسامح باعتقادي تحتاج الى ان يتنازل الناس عن بعض ممتلكاتهم للأخرين حتى يمكن ان يصلوا الى نقطة نظام

    • زائر 2 | 3:14 ص

      يتبع اهمية التجربة

      الامر الذي يعني أن الأوربيين تشربوا موضوع التسامح الديني وباتوا يرفضون التحريض حتى ولو كان ذلك صادر من اعلى هيئة دينية رهبانية في العالم

    • زائر 1 | 3:13 ص

      اهمية التجربة

      التجربة الاوربية ثرية وربما لا زالت تأثيراتها إلى اليوم مستمرة . فقبل ايام تظاهر الأسبان احتجاجاً على زيارة البابا اعتقاداً منهم أنه ساهم في الحد من اللتسامح الديني ايام الدكتاتور فرانكو ووقف معه في تقييد الحريات

اقرأ ايضاً