هل هي مصادفة أن تصدر في أسبوع واحد سلسلة قرارات وتذكيرات عن الأمم المتحدة تشير إلى اتجاهات معاكسة؟ المصادفة واردة ولكنها ملفتة. ففي الأسبوع الماضي صدر عن مجلس الأمن وبالإجماع وبناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة القرار 1636 الذي يلزم سورية التعاون الكامل مع "لجنة التحقيق الدولية" بشأن اغتيال رفيق الحريري. كذلك أعيد إصدار "التذكير" بمشروع قرار يدعو العالم إلى إحياء ذكرى محرقة اليهود التي ارتكبتها النازية في الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه وزع مجلس الأمن على الدول الأعضاء بيان الاتحاد الأوروبي "رسالة مؤرخة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول" الذي يدين تصريحات الرئيس الإيراني بموضوع "إسرائيل" وشطبها من الخريطة السياسية. هذه المصادفات أطلقت مجموعة إشارات تدل على وجود انقلاب في مزاج الأمم المتحدة وبداية تحول من هيئة وجدت للدفاع عن المظلومين والمستضعفين إلى منبر يغطي سياسات الدول الكبرى وطموحها نحو العودة إلى مرحلة الاستعمار في صيغة جديدة تحرق الأخضر واليابس. مشروع القرار بشأن المحرقة أعيد إصداره لأسباب فنية "تقنية" بسبب ارتفاع عدد الدول الموقعة عليه إلى .91 وهي مناسبة وجدت الأمم المتحدة أنها تبرر إعادة تذكير العالم بذاك اليوم الذي قررته وهو 27 يناير/ كانون الثاني ليكون "يوما دوليا سنويا لإحياء ذكرى ضحايا محرقة اليهود".
محرقة ومحارق
مشروع القرار قدمته الدولة العبرية. ووصفته الصحف الإسرائيلية بـ "التاريخي" مشيرة إلى ذاك "التحول الكبير" الذي طرأ على سياسة المنظمة الدولية. فالأمم المتحدة تتبنى للمرة الأولى مشروع قرار مرفوع مباشرة من "إسرائيل" ومن دون واسطة أميركية. ولم تقتصر مواقف الدول الموافقة على المشروع على تبني فكرة "اليوم العالمي" بل خصصت له موازنة دولية لتنظيم فعالياته وشرح "معانيه الإنسانية". وهذا ما اعتبرته تل أبيب من الانجازات السياسية لدولتها. فهذه الدولة لم تكن موجودة حين حصلت المحرقة وهي تأسست بالقوة والغصب بعد سنوات ثلاث من نهاية الحرب العالمية الثانية. وكذلك، وهذا هو المهم، قامت على أنقاض فلسطين وقرارات الأمم المتحدة وخصوصا تلك المتعلقة بمساحة "التقسيم" و"حق العودة". الآن وبعد مضي أكثر من 57 عاما على النكبة، بدأت "الدولة" تحصد نتاج الضعف العربي وتردد دوله في التعامل مع استحقاقات تهدد أبنيتها السياسية. يوم 27 يناير تحول إلى ذكرى عالمية وهو يستوجب أو يحث الدول الأعضاء "على وضع برامج تثقيفية لترسيخ الدروس المستفادة من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المقبلة". ولا ينسى مشروع القرار تذكير دول العالم بأنه بات ممنوعا عليها أن "ترفض أي إنكار كلي أو جزئي لوقوع محرقة اليهود كحدث تاريخي". كذلك لا يتردد المشروع في تحديد الضحايا من دون أن يدخل في تفصيلات الأرقام بسبب الخلاف عليها بين المؤرخين. ولكن القرار الذي أعيد توزيعه على الدول الأعضاء يشير إلى "مقتل ثلث الشعب اليهودي ومعه عدد لا يحصى من أفراد الأقليات الأخرى". طبعا مشروع القرار تجنب ذكر العدد ولم يشر إلى ذاك الرقم المتعارف عليه "6 ملايين". واكتفى بالقول "ثلث الشعب اليهودي" وترك مسألة تقدير العدد مفتوحة على احتمالات غير نهائية. فالثلث نسبة إلى مجموع. والمجموع قد يكون 18 مليونا أو 15 مليونا أو 12 مليونا وربما 21 مليونا. المسألة إذا مفتوحة على الزيادة أو النقصان وذلك يعود إلى تقدير عدد اليهود في ألمانيا وأوروبا عشية الحرب العالمية الثانية. هذه النقطة الغامضة "المفتوحة على احتمالات وتأويلات وتفسيرات" منع القرار التحدث بشأنها لأن مجرد التطرق إليها يعني احتمال اتهام الباحث/ المؤرخ بالإنكار الكلي أو الجزئي لوقوع المحرقة. إلى هذه النقطة يرتكب القرار خطأ آخر حين يتعامل باحتقار أو تعال مع ضحايا "الأقليات الأخرى". فهو هنا لا يشير إلى ثلث أو ربع أو خمس وإنما يكتفي بهذا الذيل حين أورد المشروع عبارة "ومعه عدد لا يحصى". و"عدد لا يحصى" مسألة مفتوحة أيضا على احتمالات وتأويلات وتفسيرات. فالعدد الذي لا يحصى قد يعني الملايين من البشر وخصوصا تلك الأقليات الأوروبية التي لا هوية لها من مسلمين وغجر وبدو رحل أبادهم هتلر بذريعة أنهم يفسدون دم النقاء الأوروبي "الجرماني" المتفوق على شعوب العالم منها تلك التي تعيش في القارة البيضاء. إذا هناك "عدد لا يحصى" من الأفراد والأقليات والبشر أحرق مع "ثلث الشعب اليهودي". وهذا العدد الذي لا يحصى يبدو أن الأمم المتحدة غير مكترثة بتحديد نسبته ولونه وجنسه ودينه وثقافته... فهو فقط أحرق مع "الثلث". المهم أن العالم بات عليه أن يتذكر في يوم 27 يناير من كل سنة ذكرى المحرقة حتى لا تتكرر أو حتى لو تكررت في فلسطين والعراق وأفغانستان في القرن الحادي والعشرين. فالذكرى مهمة حتى لا يعاود الماضي الظهور مجددا في الحاضر. أما الحاضر وتلك المحارق التي يرتكبها الثنائي تشيني - رامسفيلد في العراق وأفغانستان، وشارون وربعه في فلسطين فهي يمكن إدراجها ضمن ذاك الإحصاء الذي لم يكتمل وأشير إليه بعبارة "عدد لا يحصى". فالعدد الذي لا يحصى لا يرتقي إلى نسبة نهائية أو رقم متفق عليه... فالعدد هنا مفتوح إلى ما لا نهاية. فالمحرقة التي ارتكبت ضد "الثلث" توقفت نيرانها في نهاية الحرب العالمية الثانية. أما العدد الذي "لا يحصى" فهو لايزال يتراكم وهناك صعوبة في حصره وتعداد ضحاياه. فالرقم مفتوح على "عدد لا يحصى" ومقفل على "الثلث". إنها حكاية. ولكنها من النوع الذي لا يروى إلا للتذكير بالمحرقة، بينما المحارق الأخرى فهي لم تتوقف... ولن.
هنا مشروع القرار الذي قدمته "إسرائيل" بشأن المحرقة، ووافقت عليه 91 دولة من الأمم المتحدة: إن الجمعية العامة، إذ تؤكد من جديد الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ينص على أن لكل انسان الحق في التمتع بكافة الحقوق الواردة في هذا الاعلان، من دون أي نوع من التمييز كالتمييز بسبب العنصر أو الدين أو بسبب أي وضع آخر، وإذ تشير إلى المادة 3 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه، وإذ تشير أيضا إلى المادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والمادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واللتين تنصان على أن لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، وإذ تضع في اعتبارها أن المبدأ الأساسي لميثاق الأمم المتحدة المتمثل في "انقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب" هو دليل على الصلة الراسخة بين الأمم المتحدة ومأساة الحرب العالمية الثانية الفريدة من نوعها، وإذ تشير إلى اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدت لتفادي تكرار أعمال الإبادة الجماعية من قبيل الأعمال التي ارتكبها النظام النازي، وإذ تشير أيضا إلى ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على أن تجاهل حقوق الانسان وازدرائها أفضيا إلى أعمال أثارث وحشيتها الضمير الانساني، وإذ تحيط علما بأن الدورة الستين للجمعية العامة تعقد في العام الستين لهزيمة النظام النازي، وإذ تشير إلى الدورة الاستثنائية الثامنة والعشرين للجمعية العامة، التي مثلت حدثا فريدا، والتي عقدت لاحياء ذكرى تحرير معسكرات الاعتقال النازية، وإذ تعرب عن اجلالها لشجاعة الجنود الذين قاموا بتحرير معسكرات الاعتقال وتفانيهم، وإذ تؤكد من جديد أن محرقة اليهود التي أدت إلى مقتل ثلث الشعب اليهودي ومعه عدد لا يحصى من أفراد الأقليات الأخرى ستظل إلى الأبد انذارا لجميع الناس بأخطار الكراهية والتعصب والعنصرية والتحيز، 1- تقرر أن تعلن الأمم المتحدة يوم 27 يناير/ كانون الثاني يوما دوليا سنويا لاحياء ذكرى ضحايا محرقة اليهود، 2- تحث الدول الأعضاء على وضع برامج تثقيفية لترسيخ الدروس المتفادة من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المقبلة للمساعدة في الحيلولة دون وقوع أفعال الابادة الجماعية، مستقبلا، وتثني، في هذا السياق، على فرقة العمل المعنية بالتعاون الدولي بشأن التثقيف بمحرقة اليهود واحياء ذكراها وإجراء البحوث بشأنها، 3- ترفض أي انكار كلي أو جزئي لوقوع محرقة اليهود كحدث تاريخي، 4- تثني على الدول التي شاركت بنشاط في صون المواقع التي استخدمتها النازية خلال محرقة اليهود كمعسكرات للموت ومعسكرات للاعتقال ومعسكرات للسخرة، 5- تدين من تحفظ جميع مظاهر التعصب الديني أو التحريض أو المضايقة أو العنف ضد الأشخاص أو الطوائف على أساس الأصل العرقي أو المعتقد الديني أينما تحدث، 6- تطلب إلى الأمين العام وضع برنامج توعية بعنوان "المحرقة والأمم المتحدة" واتخاذ تدابير لتعبئة المجتمع المدني من أجل احياء ذكرى محرقة اليهود والتثقيف بها للمساعدة في الحيلولة دون وقوع افعال الابادة الجماعية في المستقبل، وموافاة الجمعية العامة في غضون ستة أشهر من تاريخ اعتماد هذا القرار، بتقرير عن وضع هذا البرنامج وموافاتها في دورتها الثالثة والستين بتقرير عن تنفيذه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1156 - الجمعة 04 نوفمبر 2005م الموافق 02 شوال 1426هـ