على رغم ما يصاحب التصريحات والأنشطة من شد وجذب بين الجهات الرسمية، ممثلة في "المجلس الأعلى للمرأة"، ومجموعة علماء الدين المعارضين للأطروحة الرسمية "المجلس العلمائي" بشأن تقنين الأحكام الأسرية، فإن كل ذلك يعتبر إيجابيا لأنه يفسح المجال إلى التعرف على مختلف وجهات النظر على أمل الوصول إلى حل توفيقي بين مختلف الأطراف. موضوع تقنين الأحكام الأسرية "وهي جزء من الأحوال الشخصية" يرتبط بموضوع المحاكم الشرعية وبكل التعقيدات المصاحبة لها. فالمحاكم الشرعية التي تحكم في قضايا الأحوال الشخصية انشئت في العشرينات من القرن الماضي عندما بدأ المستشار البريطاني تشارلز بليغريف آنذاك في تحديث إدارة الدولة. ومنذ البداية كان هناك اختلاف بشأن المحاكم الشرعية "وأيضا الاوقاف"، فعلماء المذهب الشيعي "ورسميا يطلق عليهم علماء المذهب الجعفري" كانوا يمارسون القضاء بشأن الأحوال الشخصية خارج الإطار الرسمي، وكل عالم دين لديه نفوذ كان يمارس القضاء بين أتباعه ويفصل بينهم في حدود دائرة نفوذه، وفي منطقته، واستمر هذا الوضع حتى منتصف العشرينات من القرن الماضي. ثم جاء تأسيس المحاكم السنية والجعفرية وتم نقل القضاء إلى مكان رسمي وتنظيمه ضمن أجهزة الدولة. وحدثت حينها اعتراضات، وتركزت الخلافات أكثر بين علماء الدين الشيعة الذين لم يعتادوا على دخول الأجهزة الرسمية. وجرت هناك عدة محاولات لإرضاء علماء الشيعة، من بينها تكوين لجنة تختار القضاة، ومشاورات بين الأطراف المتعددة. لكن الخلافات استمرت طويلا، ودخل على الخط متنازعون ووجهاء من كل الأصناف. هذا كله أدى إلى أن يحسم بليغريف الموقف فألغى كل الترتيبات السابقة وقام بتوجيه دعوة إلى الشيخ عبدالحسين الحلي للقدوم من النجف الأشرف في العام 1937 بهدف تنظيم القضاء والأحوال الشخصية بحسب المذهب الجعفري. وفعلا قام المرحوم الحلي بتنظيم القضاء ووضع الأسس والضوابط واستمر في زعامة الشأن الشيعي في هذا المجال حتى وفاته في العام .1957 منذ رحيل الحلي والوضع الشيعي بالنسبة إلى المحاكم والأحوال الشخصية "والاوقاف" في صعود وهبوط، ولعل من أسوأ مراحل الهبوط هي سنوات التسعينات وحتى وقتنا الحالي، إذ تدهورت الإجراءات داخل المحاكم وأصبح كل قاض يحكم بالطريقة التي يرتئيها في وقت ازدادت فيه دعاوى الناس - ولاسيما النساء - من مظالم تقع عليهم بصورة مستمرة ومن دون رادع أو ضابط. وقد وصل الجميع إلى قناعة بأن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار فيه، وانه آن الأوان لترتيب المحاكم الشرعية على نهج غير ظالم وبحسب ما تتطلبه الشريعة الإسلامية. الاختلاف حاليا ليس على ضرورة تعديل أوضاع المحاكم وتقنين عملها، وانما على الجهة التي ستقوم بذلك والآلية التي ستستخدم لوضع الضوابط أو القوانين. وهذا يشبه الحوار الذي كان يدور في البحرين في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. حينها تم حل الموضوع من خلال تسليم الأمور إلى عالم دين تم استقدامه من النجف الأشرف، وعالم الدين حينها أصبح جزءا من الدولة، وأغلقت أبواب الخلاف. اما الآن فإن الوضع مختلف ونحن بحاجة إلى أن يتوافق علماء الدين الشيعة أولا على النهج الذي يرتأونه. فلدينا حاليا فقهاء وفضلاء، وهؤلاء ليسوا متفقين على وجهة نظر واحدة. وفي بادئ الأمر ينبغي أن تتفق وجهة نظر علماء الدين، إذ إن من الواضح أن هناك على الأقل ثلاث وجهات نظر متباينة، وجميعها يرتبط بالحوزات العلمية في قم المقدسة والنجف الأشرف، وجميعها له الحق في الادعاء بالشرعية. وفي الوقت ذاته، فإن على علماء الدين أن يطرحوا ما يتفقوا عليه على الجهات الرسمية، وفي هذه الحال فإن المجلس الأعلى للمرأة هو الجهة الفعلية التي تمثل الدولة. وحتى الآن، فإن المجلس صرح بأنه على استعداد للتحاور مع جميع الأطراف، ولاسيما الطرف الذي أبدى معارضة شديدة، وهذا يعني أن الحل مطروح أمامنا، وما على الأطراف المعنية "علماء الدين بمختلف توجهاتهم" والجهات الرسمية إلا الاستماع لبعضهم بعضا مباشر
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1156 - الجمعة 04 نوفمبر 2005م الموافق 02 شوال 1426هـ