بدأت فرق "الحداثات" العربية تدخل مرحلة "الموت" التاريخي بعد أن وصلت مشروعاتها إلى مأزق أوصل الأمة إلى حائط مسدود وأوصد بوجه التطور مختلف الأبواب. فهذه "الحداثات" على أنواعها افتقدت منذ ولادتها القدرة على التكيف مع الواقع واتجهت منذ بداياتها إلى التقليد "النقل" لا الابتكار ومالت إلى الاتكال على منتوج الآخر وذهبت نحو الاعتماد على "الاستيراد" لا الإنتاج وإسقاط النماذج من فوق على أرض تتحرك وفق قوانين مغايرة وآليات لا تتفق مع النسق الثقافي ومقطوعة زمنيا. هذا الفشل الكلوي أو "الموت" التاريخي أعلن عنه مرارا الشاعر أدونيس في مقالات متفرقة من دون أن يتوصل إلى ربط قناعاته المستجدة "الطارئة" في منهجية بحث مغايرة لتلك التي أطلقها منذ السبعينات في كتابه "الثابت والمتغير". كذلك أعلن الشاعر محمود درويش عن تبرمه من بلاهة أو بلادة نزعات "الحداثات" العربية في كلمة ألقاها أخيرا، ولكنه اضطر إلى توضيح موقفه في رسالة نشرتها صحيفة "الحياة" بعد أن صدرت مجموعة تعليقات وجدها غير مناسبة لفحوى القصد من كلامه. هذا الانسحاب المتردد يشير إلى وجود بداية وعي مفارق لمعنى "الحداثة" وكيف تنتج وما هي آليات صناعتها التاريخية. فالملاحظات التي وردت من أدونيس ودرويش مجرد مؤشرات على وجود قلق، ولكنها حتى الآن لم تتطور إلى قراءة ناضجة تستطيع الإمساك بمفاصل الخلل وتعيين الثغرات. وهذا النقص أو التردد في النقد الذاتي وفي عدم القدرة على إدراك السياق الزمني الذي ظهرت فيه "الحداثات" يدل على بداية شعور بالأزمة. وهذا بحد ذاته بداية تحول يحتاج إلى وقت ليتبلور في رؤية تستكشف عناصر الضعف الموضوعية والذاتية وعوامل التغيير التي لا تعتمد بالضرورة وبصورة كلية على نزعة إرادية. فالإرادة لابد منها، ولكنها ليست كافية لتحديد الفضاءات العامة "الكونية والإقليمية" التي رعت قيام دويلات "الحداثة" وأوصلت المجتمع/ الأمة إلى نكسة تاريخية تحتاج إلى وقت للخروج منها. المأزق موجود وهو ماثل في حاضرنا ويمكن تحديد مؤشراته في مختلف الحقول من معرفة وعلم واقتصاد واستهلاك وتخلف قاتل يطاول مجموع نواحي الحياة العامة وتحديدا تلك الأطر المتعلقة بآليات إنتاج السياسة. فالعالم العربي/ الإسلامي اليوم يعيش حالات تمزق تتصل بتلك الأنواع المتعددة من أنماط الإنتاج وما تفرزه من سلوكيات اجتماعية. فهذا العالم موزع على اقتصادات تعتمد وسائل مختلفة من المعاش تبدأ بالبداوة التقليدية وتنتهي بالبداوة المعاصرة. والأخيرة قد تتمظهر في سلوكيات قيادة السيارة أو استخدام الكمبيوتر، ولكنها لا تعني تاريخيا دخول العصر اجتماعيا. هذا العالم البدوي المعاصر منقسم إلى دويلات "حداثية" غير قادرة على حل مشكلات كياناتها وغير مستعدة للمصارحة مع شعوبها. فالمأزق عميق وهو يطاول تلك الأسس التي نهضت عليها "دويلات" لا تتمتع بمواصفات الدولة قيض لها أن تحكم أو تتحكم بمجتمعات تفتقد إلى الإجماع المحلي على هوية مشتركة. الافتراق المذكور بين الدولة "الدويلة" والمجتمع أسس علاقات أهلية متوترة ودفع بالاجتماع "العمران" نحو الانكماش إلى حلقات ضيقة من العصبيات "طائفة، مذهب، قبيلة" تقوقعت في مناطق جغرافية بغية حماية هويتها الصغيرة من أجهزة لا تعرف من "الحداثة" سوى أدوات القمع والتخويف. وبسبب هذه العلاقة اللاتاريخية بين الدولة والمجتمع انعزلت "الحداثة" وتقهقرت زمنيا لتصبح مجرد نزعة نخبوية "فوقية" تفتقد إلى الشرعية، وعلى خصومة دائمة مع الناس "الأهل". وبطبيعة الحال كان لابد لمثل هذه "الحداثات" العربية المضادة للتاريخ والمكان أن تصل بعد بدايات متعثرة وخاطئة إلى طريق مسدود وفشل على مختلف المستويات والحقول. الأمة الآن أمام مأزق تاريخي فهي مضطرة إلى أن تدفع ثمن إسقاطات "وسقطات" ارتكبتها "حداثات" مبتورة وغير منجزة ولدت سياسات أسفرت عن تمزيق الجماعات الأهلية وتوزيعها إلى جزئيات وفرعيات منكمشة على ذاتها في حلقات من العصبيات الطائفية والمناطقية والقبلية والأقوامية. وهذه الهويات الضيقة تعيش بدورها "ازدواجيات" قلقة تجمع بين التخلف و"الحداثة" وبين عقلية بليدة وأدوات عصرية تستخدمها تلك العصبيات لتوزيع الجهل وتعميمه. هذا الازدواج أو التعدد في أنماط السلوك لم يأت من فراغ وإنما تأسس في ضوء فرضيات أسهمت في إنتاجها "استيرادها" تلك النخب العربية التي توهمت أن "الحداثة" يمكن نقلها من مكان إلى آخر من طريق المطارات والموانئ والبوارج والطائرات. وكانت النتيجة تضخم العقلية الاتكالية ونمو حالات من التمزق يعبر عن نفسه في انقسامات أهلية غير قادرة على اكتشاف الأسباب الحقيقية لا المفترضة لأسس التقدم والعوامل التي تساهم فعلا في إطلاق قوانين التطور. ولاشك في أن هذا النوع من "الحداثات" المتأزمة والمتوترة لها صلة بالاجتماع "العمران" ونمط الارتحال وعدم القدرة على التوطن والاستقرار. فالاستقرار شرط تاريخي للتراكم وهو لازمة سياسية لتحديد الأسس المعرفية التي ترسم خطوط التطور وهيكليات التقدم. وحين تنعدم ثقافة الاستقرار تصبح علاقة "النخبة" مع التراث مقطوعة عن زمنها وغير قادرة على التواصل مع الأهل أو الاتصال بالتاريخ بصفته الشاهد الزمني على موروث آت من الماضي وينفعل مع الحاضر وسيستمر فعله في المستقبل. كل هذه البداهات تعاملت معها النخب العربية "الحداثات المبتورة" بمجموعة من المفاهيم الناقصة. فهي قرأت كتب الغرب "أوروبا وأميركا" وتعرفت على نتاجاته وتعاطت معها كنصوص جاهزة وخالصة ونهائية من دون وعي تاريخي بالتطور والسياقات الزمنية التي أسهمت في تأسيس تلك المناهج والمدارس والفلسفات. فالنخب العربية اتصلت بالكتاب الأوروبي بصفته بضاعة واستوردته وترجمته ونقلته إلى العربية ظنا منها أن طريق التقدم يبدأ بالنقل لا بالعقل وبالتقليد لا بالابتكار. وهذا النوع من الاتصال بالغرب ليس غريبا أن ينتج بدوره هذه الحالات من الانفصال مع الجماعات الأهلية ويؤسس لتلك العلاقة اللاتاريخية بين الدولة والمجتمع. المشكلة إذا موجودة في أكثر من مكان وهي نتاج مجموعة عناصر منها ما له علاقة بالظروف الموضوعية والفضاءات الكونية والإقليمية ومنها ما يتصل بنقص الوعي التاريخي وعدم معرفة الأسباب التي تؤسس للتطور والتقدم. فالحداثات العربية "حداثات" أيديولوجية متنابذة مع التاريخ وطاردة للجماعات الأهلية وهي أنتجت سلسلة أوهام قادت الأمة في النهاية إلى حائط مسدود. الاصطدام بالحائط أيقظ تلك الأسئلة الكامنة ودفع أحيانا أدونيس إلى طرح علامات استفهام بشأن الفشل/ المأزق. كذلك أثار مشاعر القلق/ الغضب في وعي الشاعر درويش فطرح المشكلة مترددا وعاد وسحبها موضحا ملابساتها. وفي الحالين يمكن أن نلحظ بدايات قراءة نقدية لمجرى "الحداثات" العربية التي وجدت في الشعر مساحتها. فالشعر في النهاية "ديوان العرب". مراقبة التحولات في النصوص الشعرية ومتابعة مسارات الشعراء وقلقهم... كلها علامات جديدة على تغيرات متوترة بدأت تطرأ على مفاهيم مبتورة عن معنى "الحداثة" وكيف تنمو ولماذا تغيب؟ فالأزمة في المنطقة العربية تبدأ دائما في الشعر "ديوان العرب" والشعراء هم الأكثر حساسية في التقاط إشارات التفكك والانهيار. وهذا الانتباه المتأخر بداية الغي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1155 - الخميس 03 نوفمبر 2005م الموافق 01 شوال 1426هـ