وأخيرا رحل رمضان، شهر الفضائل والرحمة والبركات. رحل وترك فراغا يستشعره كل من عاش في أجوائه الخاصة، بما فيها من نفحات روحانية تتنزل من السماء كما يتنزل المطر مطالع الشتاء. رحل، ورحلت معه الأشياء الجميلة التي تذكرنا به... ما عدا شيء واحد لن نأسف على رحيله: المسلسلات الكئيبة! في مساء اليوم الأخير من شهر رمضان، بينما كنت منشغلا بتجهيز حاجياتي وترتيب أوراقي للسفر، وبحكم بقائي أكثر من ساعتين أمام الشاشة، كنت على موعد إجباري مع ثلاثة من المسلسلات الخليجية، كانت تعرض في أوقات متتابعة على قنوات مختلفة، العامل المشترك بينها كان الموسيقى الحزينة، وشلالات الدموع، والوجوه المقطبة، والمناظر التي تستدر تعاطف الجمهور الخليجي الذي يزيد استهلاكه للمناديل الورقية كلما اقتربت نهاية شهر رمضان، وأوشكت المسلسلات من بلوغ لحظة النهاية! ومع اقتراب الحلقات الأخيرة، تتصاعد الحوادث الدراماتيكية الحزينة، وتنحو الممثلات إلى زيادة جرعة البكاء، فالمشاهد أمام كوارث إنسانية من النوع الكبير: اللقيطة تكتشف انها بنت غير شرعية بعد 20 عاما من البقاء لدى أسرة أخرى؛ موت الجد الطيب على فراش مستشفى الأمراض العقلية، بعد أن أودعه فيه ولداه العاقان مباشرة بعد أن سدد ديونهما؛ موت الشاب لسبب مجهول، فتشرع الأم في الصراخ "وليس البكاء"، بطريقة لا تقنع المشاهد انها تمثل دور أم مفجوعة... وهكذا نهايات يختارها المخرج، ومن قبله المؤلف، لاستدرار المزيد من شلالات الدموع! أما التمثيل، فعلى رغم وجود بعض الوجوه التي تمدها الخبرة بما يغطي على ضعف النصوص، فإن الأداء في الكثير من هذه المسلسلات بقى من دون درجة الاقناع بكثير. في أداء الممثل الاجنبي، مع علمك أنك أمام ممثل يقوم بدور أمام الكاميرا، إلا أن أداءه وحرفيته وإتقانه يقنعك بصدقية هذا العمل، وواقعية هذه القصة، أما أمام الممثل "المحلي"، فلا يمكنك أن تقنع بدور أم مفجوعة لا تجيد غير الصراخ، من دون ان تبدو ملامح الحزن والفجيعة على قسماتها. في المسلسل أو الفيلم الأجنبي، عندما تؤدي الممثلة دورها لحظة الاستيقاظ من السرير، تنهض وهي منفوشة الشعر، وجهها متجهم من أثر النوم، اما ممثلاتنا البارعات، فتنهض الواحدة منهن تحت البطانية وهي في أبهى زينتها وتبرجها، على وجهها آخر لمسات المكياج، وشعرها مسرح آخر موضة، وكأنها عائدة توا من الكوافير! وحتى في أكثر اللقطات الدراماتيكية، حين تصطنع البكاء وتسيل الدموع، يسيل خيط آخر على وجنتيها من الكحل الأسود، كأن المرأة الخليجية مغرمة بالكحل ووضع المكياج حتى يوم وفاة زوجها أو في فاتحة ابنها المرحوم! أما المبالغات، والأفكار السطحية في بعض هذه المسلسلات، فتتحول إلى نوع من استهبال الجمهور، إذ يظن بعض هؤلاء المؤلفين، ومن ورائهم بعض الممثلين والممثلات، ان كل ما ينتجونه سيكون رائعا، لأنهم أمام جمهور جاهل، ليس لديه ذوق او حس نقدي، مراهنين على توظيف عنصر "الجمال" لدى الممثلة، وعلى العنف ومشاهد الضرب لدى الرجال، كأن المجتمع الخليجي يدور حول هذين المحورين. والدليل لولا جمال تلك المرأة لما صلحت أن تكون كومبارسا في فيلم محترم، فضلا عن ممثلة تلعب دور البطولة، فوق القدرة على تأليف سيناريو على يد شخصية سطحية لا تملك شيئا من الثقافة والمعرفة، غير لغة الإيماءات والاستنجاد بالجمال حين تغيب الموهبة الحقيقية. وفي الوقت الذي يرحل عنا شهر رمضان المبارك بأجمل ما فيه، لعله من رحمة الله علينا في هذا الزمان، انه يأخذ معه المسلسلات الكئيبة الغارقة بالتصنع والدموع
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1155 - الخميس 03 نوفمبر 2005م الموافق 01 شوال 1426هـ