على قبر المستشار الاشتراكي فيلي برانت في بلدة "أونكل" قرب المدينة الاتحادية بون عبارة اختارها بنفسه تقول: لقد بذلت أقصى جهدي. لاشك أن برانت يتقلب داخل قبره بسبب الضجة السياسية التي تسبب فيها الحزب الذي تزعمه لسنوات وجعله أكبر حزب شعبي في ألمانيا. بعد رحيل برانت في سبتمبر/ أيلول العام 1992 أصبحت قيادة الحزب بأيدي أبناء وأحفاد برانت لكن لو كان المستشار الراحل يعرف مسبقا أن الورثة أنفسهم سيتسببون في سقوط الحزب. فقد أوقع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني نفسه في أزمة قد تكون الأسوأ في تاريخه. وتأتي هذه الأزمة في وقت صعب بالنسبة إلى ألمانيا، إذ تحاول قيادة الحزب التوصل مع الاتحاد المسيحي لتشكيل حكومة جديدة في برلين تخلف حكومة المستشار غيرهارد شرودر على اثر فشل الاشتراكيين وشركائهم الخضر في الحصول على تكليف جديد من الناخبين لمواصلة الحكم ولاية ثالثة. وقد حصل شيء مفاجئ أثار استغراب مسئولين كثيرين في الحزب الاشتراكي وفي الاتحاد المسيحي. إذ أعلن رئيس الحزب الاشتراكي هانز مونتفيرينغ من دون سابق تحذير أنه سيتخلى عن منصبه وبالتالي لن يرشح نفسه للانتخاب مرة ثانية عندما يعقد الحزب مؤتمرا استثنائيا بعد أسبوعين لبحث نتائج مفاوضات الائتلاف. ويأتي هذا الموقف في وقت يعاني فيه الحزب الاشتراكي بعد تخلي شرودر عن تمسكه بمنصب المستشارية لصالح أنجيلا ميركل زعيمة الاتحاد المسيحي الديمقراطي التي من المنتظر أن يتم انتخابها أول امرأة في منصب المستشار في 22 الشهر الجاري شرط أن تسير الرياح كما تشتهي السفن. منذ إعلان نتائج الانتخابات العامة التي سعى شرودر كي تجري عاما مبكرا عما مقرر، يلاحظ المراقبون كيف أن ألمانيا منهمكة بنفسها بشكل أضعف موقفها في السياسات الدولية. وحكمت نتائج الانتخابات على الاشتراكيين والمحافظين تشكيل حكومة هي أقرب إلى زواج قسري لا يحب طرف فيه الآخر. لكن قرار الناخبين الألمان لم يترك لأكبر حزبين شعبيين في ألمانيا غير عقد تحالف قسري. ظهرت معارضة قوة داخل الحزبين تعبر عن عدم موافقة كثيرين على عقد مثل هذا التحالف. كما أن تنازل شرودر عن منصبه لصالح ميركل كان منذ اللحظة الأولى شوكة في عيون الكثيرين في الحزب الاشتراكي. لذلك، فإن البعض يرى عن حق أن التيار اليساري في الحزب الاشتراكي وجه صفعة قوية إلى رئيس الحزب هانز مونتفيرنع الذي قام مع شرودر باستعجال الانتخابات العامة وعلى رغم نجاحهما في حصول الحزب على نصيب من أصوات الناخبين يحفظ ماء الوجه فإن التنازلات التي قدماها للاتحاد المسيحي لقاء تقاسم السلطة في السنوات الأربع المقبلة ظلت معرض جدل ورفض تام من جانب التيار اليساري في الحزب الاشتراكي. جاء قرار مونتفيرنغ بالاستقالة من منصبه عقب تعرضه لهزيمة موجعة حين جرت عملية تصويت لاختيار أمين عام جديد للحزب وكان يرغب في أن يضمن مرشحه هذا المنصب إلا أن مرشحة التيار اليساري أندريا نيهلس حققت فوزا مفاجئا وبفارق كبير عن منافسها. خرج مونتفيرنغ بعد نهاية جلسة صاخبة ليعلن أنه لن يكون بوسعه بعد اليوم مواصلة عمله لأن هزيمة مرشحه كانت واضحة ما يعني أنه تصويت ضد رئيس الحزب وسياسته. استقالة رئيس الحزب الاشتراكي في هذه المرحلة لها انعكاسات على مسار المفاوضات الائتلاف الرامية إلى تشكيل حكومة جديدة وعودة النشاط السياسي إلى المانيا. ففي الأسبوع الماضي شارك المستشار شرودر الذي على رغم انتهاء ولايته مازال في منصبه بتكليف من رئيس الجمهورية كما يقضي القانون الأساسي حتى يتم انتخاب مستشار أو مستشارة خليفة له، في اجتماع غير رسمي لقادة الاتحاد الأوروبي في هامبتون كورت بالقرب من مدينة لندن، إذ ظهر شرودر كضيف شرف ليس أكثر. كما يلاحظ المراقبون منذ وقت أن ألمانيا لا تمارس أي دور يذكر في السياسات الدولية وأن اسم القاضي الألماني ديتليف ميليس صاحب تقرير اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري يبرز في وسائل الإعلام الدولية أكثر من اسم أي مسئول ألماني. المفاجأة الثانية التي فجرها الغاضب مونتفيرنغ كانت تركه مسألة انضمامه إلى الحكومة القادمة التي ستتزعمها ميركل مفتوحة علما بأنه تقرر أن يشغل رئيس الحزب الاشتراكي منصب وزير العمل ونائب المستشارة، بانتظار النتائج التي ستتمخض عن المؤتمر القادم للحزب. هكذا بعد إعلان مونتفيرنغ عدم الترشح مجددا لرئاسة الحزب الاشتراكي واعتزام المستشار شرودر تنحيه عن مقعده النيابي في العام المقبل، يواجه الاشتراكيون في المرحلة الحالية تحديات كبيرة إذ ليس بين الأسماء المطروحة شخصية قيادية قوية تستطيع قيادة الحزب في هذه المرحلة الحرجة وتجنيبه سقطة مؤلمة. وكان مونتفيرنغ الشخص الوحيد الذي قدم خدمات كبيرة إلى الحزب الاشتراكي في السنوات العشر الماضية، إذ وضع بنفسه استراتيجية الحملة الانتخابية التي أتت بشرودر إلى السلطة في العام 1998 ثم حصول حكومة الأخير على ولاية ثانية في سبتمبر / أيلول العام .2002 وكانت شخصيات اشتراكية عبرت عن سخطها على المؤامرة التي استهدفت النيل من رئيس الحزب من خلال عملية التصويت وترشيح زعيمة التيار اليساري نيهلس لمنصب الأمين العام، أي المسئول الثاني في الحزب، من بين هذه الشخصيات المستاءة المستشار شرودر الذي قال انه خطوة في وقت غير مناسب وكان ينبغي توفير الدعم اللازم لرئيس الحزب في المرحلة التي تتطلب دعم جهوده في تشكيل حكومة ائتلافية مع الاتحاد المسيحي. بعض المعلقين لم يتأخروا في الحكم على معارضة مونتفيرنغ كخطوة جنونية. ويتفق المعلقون على الرأي أن معارضي سياسات مونتفيرنغ وشرودر داخل الحزب استغلوا عملية التصويت لترشيح الشخص الذي اختاره رئيس الحزب لمنصب الأمين العام، لمحاسبة مونتفيرنغ وشرودر، لكن الصحف الألمانية تتساءل منذ أيام عن سبب توجيه ضربة إلى الحزب برمته: هل لأن مونتفيرنغ وشرودر قاما بجهد جبار حصل الحزب نتيجته على نصيب من الأصوات حفظ ماء وجه الحزب وحال دون حصول حزب ميركل على غالبية واضحة؟ أم لأنهما وافقا على تشكيل حكومة ائتلافية مع الاتحاد المسيحي عوضا عن الجلوس في صف المعارضة؟ لكن على ما يبدو فإن نقمة التيار اليساري في الحزب الاشتراكي موجهة أكثر لنهج الإصلاحات التي وضعها شرودر في ملف أجندة 2010 وهو ما جعله يشارك في مفاوضات الائتلاف لضمان تحقيقها خلال ولاية حكومة ميركل. لا يكف شرودر عن القول ان بلاده تحتاج إلى هذه الإصلاحات كي تستعيد ألمانيا وزنها الاقتصادي السابق حين كانت ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم. وعلى رغم الجمود الحالي فإن ألمانيا برزت في العامين الماضيين أكبر دولة مصدرة في العالم. غير أن البعض في الحزب يرى أن مونتفيرنغ وشرودر تنازلا كثيرا لميركل حين جرى تقاسم الحقائب الوزارية. فحين حصل الحزب الاشتراكي على ما يسمى الوزارات التي تصدر عنها الأخبار السيئة وخصوصا وزارة العمل التي تعلن شهريا عن أرقام العاطلين عن العمل الذين تجاوز عددهم خمسة ملايين. فإن ميركل لم تخف عزمها العمل بسياسة خارجية مغايرة لنهج شرودر تقوم على التقرب من واشنطن. هذا لم يكن ليثير مشاعر أتباع التيار اليساري في الحزب الاشتراكي لولا أن الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش يتمتع بشعبية متدنية جدا في أوساط الشعب الألماني. سيتعين على الاشتراكيين التعجيل باختيار خليفة لرئيسهم المستقيل والسؤال الكبير كيف سيكون وقع غياب مونتفيرنغ على مفاوضات الائتلاف؟ المؤكد أن أندريا نيهلس في منصب الأمين العام لن تكون شريكا سهلا للمستشارة ميركل وبالتالي ستكون حكومتها مهددة بالسقوط على الدوام.لم يعرف الحزب الاشتراكي في تاريخه أزمة بهذا المستوى حتى حين اضطر فيلي برانت إلى الاستقالة من منصبه كمستشارا ورئيسا للحزب في العام 1974 على اثر الكشف عن عميل في مكتبه كان يعمل لحساب استخبارات ألمانيا الشرقية، إذ خلفه هيلموت شميت. لكن في الوقت الحالي ليس في الحزب سياسي بهذا الوزن لكن البحث جار عن مرشح جديد لينتشل الحزب الاشتراكي من القاع.
العدد 1154 - الأربعاء 02 نوفمبر 2005م الموافق 30 رمضان 1426هـ