في عدد يوم الاثنين الماضي من صحيفة "الحياة"، نشرت على الصفحة الأولى صورة الجندي السعودي محمد مسفر الزهراني، في غرفة العناية المركزة، بأحد مستشفيات العاصمة المقدسة "مكة المكرمة". وكان الزهراني الذي تعرض لأعيرة نارية من مجهولين أثناء تأديته لواجبه، قد أصر على تقبيل يد والدته قبل ساعات من الافطار، كما قالت الصحيفة. وأضافت ان اللهفة التي ظهرت عليه شعر بها جميع أفراد عائلته عند تناولهم الإفطار عقب صلاة المغرب. جد الجندي السعودي قال عن حفيده انه العائل الوحيد لأسرته بعد وفاة والده، إذ يعول والدته وزوجته و11 أخا شقيقا، أحدهم معوق، كما انه مستأجر المنزل الذي يسكنه الجميع. المتحدث باسم الداخلية السعودية اللواء منصور التركي قال ان الحادثة اعتداء على رجل أمن أثناء تأدية عمله قي خدمة الزوار والمعتمرين القاصدين بيت الله الحرام. الخبر ربما قرأه الكثيرون لما له من لمسة إنسانية مؤثرة تخاطب وجدان الجميع، وتجعلهم يتعاطفون مع الضحايا، وهم جميع أفراد العائلة. قبل ذلك بيوم واحد "السبت"، تم تفجير سيارة مفخخة في بعقوبة، أودت بحياة 30 عراقيا، وجرح أكثر من 45 آخرين. اللافت في هذه الجريمة ما ابتكره العقل المنحرف من طريقة لاستدراج ضحاياه إلى الموت الاحمر، إذ أوقف شاحنة محملة بالتمر وسط بلدة الهويدر الشيعية، فتجمع عدد من الزبائن حولها لشراء التمر، قبل أن يفجر شحنة ناسفة. وكان من بين القتلى تجار يتناولون إفطارهم في متاجرهم بالسوق، وآخرون كانوا يسيرون في طريقهم آمنين، يستمتعون بالأجواء الرمضانية التي يوشكون أن يودعوها مع اقتراب نهاية الشهر الكريم. في رواية أخرى، ان الانتحاري كان قد قدم نفسه باعتباره محسنا، جاء ليوزع التمر على الصائمين، فلما اجتمعوا حوله فجر نفسه ليقضي عليهم في لمحة عين. هذه الطريقة الاجرامية طبقت مرات سابقة في أسواق وأماكن أخرى على أرض العراق الجريح، وعادة ما يذهب ضحيتها أضعف الحلقات في المجتمع: الفقراء والمعدمين، الذين لا يجدون ما يسد رمقهم، أو يرفع عنهم جوعهم. قبلها جرت عمليات قتل للعراقيين، مدنيين وعسكريين، مسئولين ومواطنين عاديين، يسيرون في الشارع فيذهبون ضحية السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والأعيرة النارية، التي لم تعد تصل إلى جنود الاحتلال الاميركي، وانما تستأسد وتستقوي على المواطنين من أبناء العراق تحت يافطة "مقاومة" مزعومة، حجتها مهلهلة لا تقنع عربيا ولا مسلما شريفا، بصحة سفك الدم العربي المسلم في نهار شهر الصيام، باسم مقاومة الاحتلال. الدم العربي المسلم الذي يسفك في مكة المكرمة على يد الارهاب الأعمى، هو نفسه الدم العربي المسلم الذي يسفك في بغداد أو بعقوبة أو أية قرية عراقية صغيرة. المسلمون في المشرق والمغرب يحتفلون هذه الأيام بعيد الفطر المبارك، ولنا أن نتخيل كيف ستحتفل عائلة الزهراني في مكة المكرمة هذا العام، وكيف ستشعر والدته وزوجته، بل كيف سيشعر أخوته الـ 11 هذا العام؟ من حسن الحظ أو من سوء الحظ، ان مقتل محمد الزهراني، أعطى القارئ العربي فرصة للتعرف على خصوصيات أسرته، والاطلاع على معلومات عامة عن أسرة الأيتام هذه. كما ان عرض "الحياة" بهذه الصورة يضمن تعاطف كل قارئ مع هذه الأسرة المنكوبة. هذا التعاطف الذي يمكن أن يأخذ القارئ في هذه الأيام إلى تخيل حال الأسرة، وكيف يمكن أن تقضي أيام العيد، وفي أي وضع نفسي ستكون الأم الحزينة والزوجة المفجوعة. في المقابل، كيف ستحتفل مئات العوائل العراقية التي غيب القتل الأعمى أبناءها خلال الفترة الأخيرة، فلن يعودوا يحتفلون هذا العام بعيد الفطر. قائمة طويلة من ضحايا مسلسل الإرهاب الدموي الأعمى الذي استخف بالدم العربي المسلم وجعله في رخص التراب. العراقيون الضحايا أصبحوا أرقاما بعد استمرار مسلسل الولوغ في الدم العراقي بشكل يومي. الجيش الأميركي الذي أعلن ان قتلاه في العراق بلغوا ،2000 فإن العراقيين بلغوا 26 ألفا. لكل من هؤلاء عائلة، وكان لكل منهم آمال وتطلعات في الحياة، ولكل منهم نهاية فاجعة، لم يتح لأي منهم صحيفة متعاطفة، أو فضائية عربية إنسانية المنهج، لتنقل لنا ما يشعر به العراقيون من آلام. رحم الله الزهراني، ورحم الله ضحايا الارهاب الأعمى في العراق.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ