قلنا في مقال الأسبوع الماضي، إن هناك مشكلات قائمة للمسيحيين في مصر وغيرها من الدول العربية والاسلامية، يجب الاعتراف بها وبالتالي العمل بسرعة وقوة على حلها بعد طول تأجيل وترحيل، وقبل أن تنجح حملات التحريض الداخلي والضغط الخارجي في تأجيج نارها في ظل سرعة تدحرج كرة اللهب الحارقة، وسط حال من الاستقطاب الحاد والمتشابك، سواء بين المسلمين والمسيحيين في الداخل، أو بين الجميع وقوى الخارج، المتحفزة لتطبيق مشروعات التقسيم وتفتيت الدول والأوطان، على أسس طائفية ودينية وعرقية. .. وانظر داخلك أولا وحولك ثانيا! لقد ظلت مصر على سبيل المثال تعيش في تسامح ديني واعتدال وسطي على مدى نحو أربعة عشر قرنا من الزمان، قاده الأزهر الشريف رائد المنهج الاسلامي المعتدل، والكنيسة الأرثوذوكسية الوطنية الفكر والسلوك... لكن المياه لا تجري صافية رقراقة على الدوام، فثمة معكرات ومنغصات تلوح بين الحين والآخر، تمكن المصريون بوحدتهم الوطنية من تجاوزها أحيانا كثيرة، وتمكنت هي من ارباكهم والايقاع بينهم في أحيان أخرى، على غرارما نشهده على مدى السنوات الأخيرة مثلا من صدامات وتطرف وتحريض واتهامات متبادلة، يتردد صداها فورا في الخارج بتضخيم مبالغ فيه لهدف في نفس يعقوب! ولأن الدين الاسلامي متسامح في أصوله معتدل في ثوابته، كما جاء في القرآن والسنة، "لكم دينكم ولي دين" "الكافرون: 6" و"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل: 125"، فضلا عن عنايته الفائقة واعترافة الكامل برسالة السيد المسيح "ع"، وتقديره العالي للسيدة مريم البتول، كما لم يحدث في تاريخ الأديان، فإن من واجب المسلمين المصريين وهم الغالبية الساحقة، تطبيق هذه الدعوة والقدوة الحسنة بل الوحي الالهي، في كل تعاملاتهم مع المسيحيين أخوتهم في الوطن وشركائهم في حقوق المواطنة، بكل عدالة ومساواة واعتراف بالحقوق والحريات المشتركة. وإذا كنا تحدثنا في المقال السابق عن طبيعة مشكلات المسيحيين ومطالبهم، وعن حقوقهم وحرياتهم، التي قد يرون فيها انتقاصا، فإننا نتحدث اليوم عن دور الدولة، ودور المؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية، وعن بعض الممارسات التي تخطئ فتشوه الصورة، وتحرض بالتالي على الالتهاب المتبادل، والأزمات المتوالية وكذلك على فكرة الاحتماء بالخارج والاستقواء به. لقد غشيت مصر المحروسة خلال السنوات الأخيرة موجة من التطرف والتشدد، إن كانت بدأت بالدعوات والتنظيمات والتيارات الاسلامية المتطرفة، فقد ظهر رد فعلها سريعا وربما بصورة غير معهودة، داخل بعض الكنائس والمدارس القبطية، وعلى ألسنة بعض رجال الاكليروس الديني، وصولا إلى حكاية المسرحية التي عرضت، كما قيل قبل عامين في كنيسة مارجرجس بالاسكندرية، رأى المسلمون فيها اساءة إلى الاسلام ونبيه "ص"، فتم وقفها فورا من جانب الكنيسة. لكن في مناخ الاثارة والشحن المتبادل، تم توزيع قرص مدمج للمسرحية في السوق فجأة، فإذا به يشعل النار من جديد، موازيا لقرب انعقاد مؤتمر للأقباط المصريين في الكونغرس الأميركي بواشنطن، يندد باضطهاد الأقباط في مصر ويطالب بضغط أميركي نفاذ وحاسم لاستعادة حقوقهم بالتدخل المباشر، ومن بين هذه المطالب الغاء النص الدستوري بأن الاسلام دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع في مصر. وهنا تثور الأسئلة، من الذي نظم وألف وعرض مثل هذه المسرحية، داخل كنيسة مصرية، ومن الذي طبع ووزع قرصها المدمج في الأسواق، ومن الذي سربه للمسلمين، ومن الذي حرضهم على "الثورة دفاعا عن الاسلام"، ومن الذي استغل الفتنة الكبرى ولمصلحة من ولماذا؟... إلى آخر الأسئلة التي لا تجد جوابا شافيا حتى الآن، بسبب سياسة النعامة التي تخفي رأسها في الرمال. أما وقد حدث ما حدث من أزمة جديدة، بما فيها المظاهرات الغاضبة والاحتجاجات الصاخبة في الداخل مع سقوط قتلى وجرحى بالعشرات، وبما فيها حملات التضخيم والمبالغة في الخارج، فإن المسئولية الأولى تقع على الدولة ومؤسساتها المدنية، وعلى المجتمع المدني الذي تعود على التسامح وعاش قرونا في تناغم بين أبنائه مسلمين ومسيحيين. أي أساسا على سلطة القانون العادل، الذي يحترم حرية العقيدة للجميع من دون تفرقة، وفق نص الدستور على المساواة بين المواطنين من دون تمييز، لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. وبصراحة شديدة، نتساءل: هل قامت وتقوم أجهزة الدولة، بتطبيق القانون ونصوص الدستور بقوة وحسم، أم أن الممارسة العملية، تخلط المعايير وتخل بالضوابط وآليات التطبيق في الحياة اليومية، من دون مساءلة ومحاسبة لأي طرف يكسر سلطة القانون ويتحدى دستور الدولة، وبالتالي يعرقل حل المشكلات الناجمة عن أوضاع مختلفة، بصرف النظر عن الهوية الدينية! وحين نتعمق في البحث ونزيد في الاجتهاد، نعتقد أن مناخ الاحتقان والتشدد المتبادل بين بعض مسلمي مصر ومسيحييها، يعود في اتجاهاته المتعاكسة، إلى مناخ عام ساد مصر، هو مناخ التضييق على الحريات بصفة عامة للجميع مسلمين ومسيحيين، بفضل ترسانة قوانين متشددة، مثل قانون الطوارئ، تحاصر المجتمع المدني الذي هو بؤرة صهر وسبك الوحدة على أساس حقوق المواطنة العادلة. وفي مناخ الاصلاح الديمقراطي واطلاق الحريات الذي تبشر به الدولة المصرية هذه الأيام، تجب المسارعة إلى وقف والغاء هذه القوانين والسلوكات المقيدة، التي إن اصابت مسيحيا واحدا فهي تصيب عشرين مسلما، والهدف أن نعيد ونزيد ونكرر، ضرورة تطبيق الحقوق المتساوية والمتوازنة، وفق قواعد من الوفاق الوطني، تحفظ للجميع أوضاعهم ومشاركتهم في بناء الوطن الحديث من دون تمييز، وتحميه بالتالي من التدخل والضغط الأجنبي، الهاجم بقوة باسم حماية الأقليات وحقوق الانسان! وغني عن البيان أن المناخ الدولي الراهن، المعبأ بفكرة حماية الأقليات ونشر الديمقراطية الغربية، والتدخل الانساني في الدول المستبدة والفاسدة، واصلاح الأوضاع في المجتمعات العربية والاسلامية، المتهمة دوما بالتعصب والتطرف والعنف والارهاب، وممارسة الاضطهاد للمرأة والأقليات، قد شجع عناصر كثيرة من التيارات الاسلامية على الاحتشاد لمجابهة "الهجمة الصليبية الكافرة المعادية" القادمة من الغرب بزعامة أميركا وجماعة المحافظين الجدد المتطرفين دينيا وسياسيا، مثلما شجع عناصر مسيحية أخرى خصوصا من بين اقباط المهجر المتطرفين، وليس كل أقباط المهجر كذلك، على استغلال هذا المناخ لتحرير مسيحيي مصر من استبداد مسلميها، كما يقولون! الأمر الذي وجد له صدى في الداخل بشكل من الأشكال. وبقدر ما لعبت السياسات الأميركية دورا هائلا في تشجيع كثير من المنظمات الاسلامية المتطرفة، وخصوصا لاستغلالها في الحرب الأفغانية ضد الاحتلال السوفياتي السابق، الأمر الذي أدى إلى تقوية شوكة هذه المنظمات، بقدرما تشجع الآن منظمات وجماعات مسيحية لاستغلالها سلاحا للضغط المضاد على مصر ودول عربية أخرى! وقد وجدت بعض الجماعات القبطية المتطرفة، في إصدار أميركا قانون الحريات الدينية العام ،1998 الذي بموجبه تحاسب وتراقب هذه الحريات في الدول المختلفة، وخصوصا مصر والسعودية، سندا ودعما شديدا لإثارة ما يسمى بالأزمة القبطية واضطهاد المسيحيين المصريين، على المستوى الاميركي وعلى المستوى الدولي. مثلما وجدت دعما أضخم في ظل "العودة الأميركية إلى الدين" والتعاطف الايماني مع اليهود والمسيحيين في كل مكان على الأرض، وبتشجيع مباشر مما يعرف بتحالف اليمين المسيحي "البروتستانتي" المتعصب مع "الصهيونية" الذي يطلق عليه في أميركا تعبير "المسيحية الصهيونية" الممتد بآثاره وارتباطاته من بعض الكنائس المسيحية والكنس اليهودية ومنظمات المجتمع المدني، حتى الكونغرس والاعلام ودوائر المال، وصولا إلى نفوذ "جماعة المحافظين الجدد" المتطرفين في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية. ولم يعد خافيا على أحد احتضان هذه التيارات الأميركية المتشددة، لبعض جماعات الأقباط المهاجرين، ليس للدفاع الأصيل عن "حقوق مهضومة واضطهاد منظم في مصر" ولكن للدفاع عن الأهداف والمصالح الاميركية الاستراتيجية، التي تسعى إلى تغيير خريطة المنطقة واعادة رسمها، بما يتوافق مع هذه المصالح من جهة، وبما يحمي "اسرائيل" ويعزز دورها المهيمن من جهة أخرى، في ظل غيبة الوعي أو السقوط في الشراك الخداعية، من جانب اخوتنا بعض أقباط مصر في المهجر! فهل يوافق بعض هؤلاء الاخوة مثلا على مشروعات تقسيم دولنا الموحدة، على أسس عرقية ودينية وطائفية، كما يجري في تقسيم السودان وكونفدرالية العراق وطائفية لبنان، وصولا إلى مشروع تقسيم مصر إلى ثلاث دويلات، اسلامية وقبطية ونوبية، وهو مشروع مطروح منذ سنوات علنا! امتدادا بالطبع لتقسيم سورية، السعودية، الجزائر والمغرب، سواء بين الشيعة والسنة، أو بين العرب والبربر الامازيغ... الخ! وللأسف أنه في ظل الغيبوبة القومية وتدهور الوعي الوطني، ومصادرة حقوق المواطنة يجري البعض وراء السراب الواهم والمشروعات التآمرية، متأثرا بما يجري في الداخل من احتقانات مؤقتة يجب عدم السكوت على أسبابها ومحركاتها، مثلما يصدق الشعارات الغربية البراقة بشأن انقاذ مسيحيي الشرق من ابادة المسلمين "المتوحشين" لهم. وها هي أميركا الديمقراطية الحديثة، تعود الينا حاملة ميراث الامبراطوريات الغربية الاستعمارية، رافعة شعار "فرق تسد"، وحق التدخل لحماية الأقلية من طغيان الغالبية. وهي في سبيل هذا وذاك تشجع وتتبنى مثلا حركات المعارضة العربية والاسلامية، سواء التي على حق أو التي على باطل، بهدف استغلالها لصالح مشروعها الاستراتيجي، كما فعلت مع المعارضتين الافغانية والعراقية، اللتين أركبتهما دباباتها الاميركية لتعود إلى كابول وبغداد تحت العلم الاميركي وفي حماية نسره المحلق، وكما تفعل حاليا مع المعارضة السورية والليبية والخليجية، ومع بعض جماعات الاقباط المصريين أيضا، استغلالا للمناخ المتشدد من أثر هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 على قدس الأقداس الاميركية، وحملة
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ