قبل 15 عاما مضت، أجرى صديق انجليزي امتحانا صغيرا لي ضمن مجموعة من الأصدقاء. كنا نتسلى، كان من ذلك النوع من الامتحانات النفسية التي تستند على معايير علمية في تحديد نوع الشخصيات. الامتحان بسيط، يرسم الممتحن قصة على الورق بتسلسل حوادثها وأسماء شخصياتها وهم حوالي 6 شخصيات. ومن ثم يطلب من كل شخص أن يرتب وفق ما يراه انه السلوك الأمثل لكل شخصيات القصة. في النهاية وحسب الترتيب الذي نخلص إليه تتضح بعض ملامح شخصياتنا عبر تحديد الأولويات، ماذا يسبق ماذا بالنسبة لكل واحد منا. إنها خمسة عناصر تقريبا في الأولويات: الحب، المنطق، المال، العائلة، الصداقة. انتهينا وقام صاحبنا بتلاوة النتائج. نتيجتي كانت: "المنطق" يسبق كل شيء. لكن إن كان لي من معاناة طيلة حياتي فهي هذه بالضبط: "لا منطق". أين نجد المنطق في حياتنا اليومية؟ ان طبقنا بعضا من هذه الامتحانات التي وضعها علماء نفس كبار في مقابلات التقدم للوظائف مثلا، فان النتيجة ستكون تضخما غير طبيعي في طوابير العاطلين عن العمل، فسلوك الأفراد في مجتمعاتنا بات محكوما بجملة التصرفات والمقولات المسبقة. ان مفردات مثل النظام والانضباط والتفاني في العمل والاستعداد لتحمل الأعباء، كلها عبارات رائجة لكنها غدت مثل جمل متكررة من حوارات الأفلام. سهلة الحفظ، متداولة، شائعة. لكن هل ستجعل هذه حياتنا العملية والعامة تسير وفق المنطق؟ لا الحكومة ستقوم بالتوظيف وفق هذه المقاييس ولا الشركات، فالعمل والرزق أكبر مما يبدو أنه ترف. عدا ان معاناتي دفعتني ذات يوم لتجربة امتحان آخر على مجموعة من مرؤوسي في العمل من الرجال والنساء. كانت محاولة للفهم، أن أفهم لماذا يبدو هؤلاء من دون غيرهم متطلبين، كثيري الشكوى، كثيري الانتقاد لزملائهم، متبرمين دوما، محتجين أبدا، يطلقون أحكامهم وكأنها فرضيات، لا يقبلون بأي مهمة إلا بمشقة ونقاش وحجاج ويحاولون قدر الإمكان التهرب منها. أضف إلى هذا أنهم لا يطرحون أي سؤال أبدا قبل أن يصدروا أحكامهم أو يعرضوا وجهات نظرهم. لكن هذا لم يكن الدافع الوحيد، فقد كنت أختبر تقييمي الخاص لهم. وإذ كنت من ذلك النوع الذي لا يضع أسوأ التفسيرات إلا بعد استنفاد كل التفسيرات الحسنة، أردت اللجوء إلى وسيلة علمية لاختبار تقييمي الخاص، اعتبرته فرضية من بين الفرضيات التي يجب أن تختبر. هالتني النتائج. لقد أظهر امتحان علمي بسيط ان هؤلاء على العكس مما يدعون، على العكس من الصورة التي يحرصون على الظهور بها. فيما خص حديثنا هنا، فهم ممثلون من الطراز الأول. إننا أصبحنا نفتقد أولئك الذين يتصرفون على سجيتهم ودون افتعال من أي نوع. في صميم الحياة اليومية، في المكاتب والمنازل ووسط الأصدقاء وعلاقات ممتدة ومتشابكة، فان محنتنا تتعاظم. لم أستطع حتى اليوم أن أفهم أو أن أتقبل بناء الفرضيات من دون أسئلة تسبقها. ثمة الكثيرون من هذا النوع، أناس لم يعتادوا الحكم على الأشخاص أو الأفكار أو الآراء بموجب فرضيات مسبقة. لكن هذا بالضبط ما يجعل الحياة والتعامل مع الناس مرهقا إلى أبعد الحدود. مرهقة؟ نعم، تخسر كثيرا؟ دون شك. تستنزف قواك وذهنك؟ بالتأكيد، لكن هل نحن سذج: كلا. مع هذا يبدو ان السذاجة لاتزال ارحم بكثير من وضع الفرضيات المسبقة: الانفعال بسبب فرضية مسبقة، التوتر بتأثير فرضية مسبقة، الحكم على الناس بفرضيات مسبقة، بناء الأحكام بشكل مسبق، التهيؤ لمقابلة الناس بناء على فرضيات مسبقة. أسلوب من التفكير يجعل الناس كلها كتلا صماء لا تمييز بينها ولا فوارق. أسلوب من التفكير لا يستلزم أكثر من بضع مقولات متداولة لكي نحكم أن فلانا مثقف وفلانا متزن، وفلان "حبوب" وفلان مجتهد وفلان ذو عقلية منفتحة، وفلان ذو تفكير علمي، وآخر قارئ جيد. وبالنهاية وعلى رأي صديقنا العزيز علي الشرقاوي: "كلكم خريط". حتى سنوات مضت، كنت أغضب وأنفعل وأصرخ، أما الآن فأنا أهدأ بكثير. لقد كبرت وأصبحت أكثر ميلا للتأمل والاسترخاء، ونادرا ما أغضب أو انفعل. أمر واحد مازال يخرجني من أطواري ويدفع بي الى الجنون: ان أسمع حكما أو أرى تصرفا مبنيا على افتراض مسبق دون أسئلة تسبقه. لماذا اكتب هذا الآن؟ نعم واجهت شيئا من هذا خلال الأيام الأخيرة، بل طيلة حياتي إن أردتم الصدق. الأهم من هذا، بعد يومين سيحل العيد ولم يشغلني سوى أن استبق فرحتكم بسطور أتأمل فيها معكم شيئا يجمعنا، يهمنا جميعا. كيف نتعامل مع بعضنا. سأظل أردد ان ثواني معدودات من الأسئلة كفيلة بحل ثلاثة أرباع مشكلاتنا التي تستمر سنوات. كفيلة بإزالة أي سوء فهم في أي نقاش. وهي بقليل من المحبة قادرة على جعل حياتنا أفضل بكثير، فالسر في هذا كله هو المحبة... لا تنسوا ذلك
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1152 - الإثنين 31 أكتوبر 2005م الموافق 28 رمضان 1426هـ