العدد 1152 - الإثنين 31 أكتوبر 2005م الموافق 28 رمضان 1426هـ

تكهن أنثروبولوجي عتيق، دون متى أو كيف

تود في "ما بعد الإمبراطورية"

ايمانويل تود في كتابه "ما بعد الإمبراطورية" وعلى مدى ثمانية فصول، يتنبأ بسقوط الولايات المتحدة الأميركية، وهو يرى أنها أصبحت تلعب دور المثير للفوضى حيثما تستطيع. يرجع تود بمضامين نقده إلى تحليلات انثروبولوجية تختص بالديموغرافيا المدنية في كل من أوروبا وأميركا وآسيا وأوراسيا، ويشن هجمة شرسه تجاه سياسات الولايات المتحدة، متهما إياها بأنها تفتعل الحروب كردة فعل طبيعية لإحساسها بتفككها ونهايتها، كما انه يعتمد بقوة على ذلك المكون الرئيسي للتركيبة الأميركية، ويزعم أنها توليفة لن تستطيع البقاء، وأن الإثنيات المكسيكية والزنجية مازالت غير قادرة على الاندماج السلمي في المجتمع الأميركي. إلا أن تود لا يعطي المكون الثقافي والسيسيولوجي ذلك التنظير والتفكيك الكافي. الذي يعطيه أحقية إصدار سلسلة أحكامه "تنبؤاته" النهائية. تود، عالم الأنثروبولوجيا والديموغرافيا والتاريخ. يذهب في كتابه إلى نتائج أولية قلما تجدها لدى الكتاب الإنثروبولوجيين، إذ إنه لم يذكر كلمة أميركا إلا وأردفها بتعليق ونتيجة "أميركا الإمبريالية المنهزمة" "أميركا التي ستزول" "اميركا الاستعمار الحديث". ولعلها حالا تحيل القارئ الى الإحساس بانزياح تود من العلمية الى الكتابة السياسية أو حتى الى فلسفة العمود الصحافي في صحافة الرأي. إن الإسقاط النهائي لنتيجة دراسته الديموغرافية فيه ربط لا أجده ملائما مع مفهوم الإمبراطوريات الحديثة، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار آخر كتابات الثنائي مايكل هاردت وانطونيو نيغري. كل صور الصراع البشري يمكن إسقاطها على الحرب الأسطورية بين أثينا وروما، إلا أن الإمبراطوريات الحديثة القائمة أو القادمة تختلف. وجه الاختلاف أن المنظومة الإمبراطورية الحديثة "إمبراطورية ديمقراطية"، حتى وإن كانت ديموقراطية منتقصة أو مشوهة، وهذا ما يجعلها ذات آليات مختلفة. سأتفق مع تود على حتمية السقوط، ولي أسبابي الأخرى، لكن التنبؤ "الحديث" ليس تنجيما، بل دراسة وبحث، لذلك كيف ومتى تسقط الإمبراطورية الأميركية وعلى يد من وما هي سيناريوهات السقوط هل تلعب القوى الدولية دور المحجم لاميركا، أم أنه تفكك داخلي، أم هي صورة تنتهي بهتلرية أميركية. انشغل تود بالإجابة على سؤال افتراضي "هل يمكن للإمبراطورية الأميركية أن تسقط"، سواء عسكريا أو اقتصاديا أو حتى ايديولوجيا، لكنه لم يستطع الإجابة على الأسئلة الكبرى، التي هي محور التنبؤ أو قيمته الفعلية، متى وكيف. ذاته ايمانويل تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي، بانيا أسس تنبؤه على معدلات الخصوبة والتعليم آنذاك، إلا انه هذه المرة، لم يكلف نفسه في تحديد ماهية السقوط، ومدى ارتباطه بدراساته وتحليلاته الديموغرافية. إمبراطورية الشرق انتهت، وبقيت إمبراطورية الغرب التي امتدت خلال العشرين عاما الماضية بصورة كوكبية، نتائج التاريخ "المخادعة" تذهب لتود، ولنسلم بها، لكن ما يجب التنبه له والعناية به، هو أن سقوط الولايات المتحدة لن يكون عبر خطاب سياسي خلف المكتب البيضاوي، كما فعل غورباتشوف، ثمة صور أخرى ولعلها ملتصقة بالدمار والقتل، الإنسان الذي بنى جنته في أميركا هربا من أوروبا الظلام، سيعود مرة أخرى بظلمة لم يتنبأ بها احد. تحليلات القوة الأميركية متفارقة، فهي اقتصادية لدى بول كنيدي، وثقافية دينية لدى هنتنغتون، ودبلوماسية وعسكرية لدى كيسنغر وبريجنسكي، وتبقى القوة الذرية والنووية "2000 رأس نووي" أكثر الأمور إخافة عن الخوض في سقوط الولايات المتحدة، لعلنا لا نتجرأ في مخاطبة ذاتنا بتعليق بسيط "نهاية الإمبراطورية الأميركية سلمية، ولكن أن لا تنتهي سلميا، معناه أن تنتهي وننتهي كلنا معها!".

الذهاب إلى الوراء

سلوكيات عدوانية، جسارة في التحدي، لغة دبلوماسية تتسم بالتهديد، مغامرات عسكرية وسياسية، من جانب عصبة من الحكام لا تضبطها رقابة كافية. "أميركا العدوانية" هل هذه تحديدا بوادر نهاية الإمبراطورية التي اعترف بقيامها روبرت كاغان ووليام كرستول "نعم اميركا إمبراطورية، ويجب أن تتصرف على هذا الأساس مستفيدة من تفوقها الكاسح". ولعلنا في خطورة أكبر حين نقرأ في "رقعة الشطرنج الكبرى" لزبغنيو بريجنسكي "إن حلفاء أميركا أتباع وخدم، وعليهم أن يدفعوا الجزية". يرى تود أن الاندفاعية التعليمية جعلت الأميركيين "أقل خصوبة" يعيشون في عالم الفرنسي توكفيل، الذي يرى أن مسيرة الديمقراطية "إلهية"، وطبعا يقصد أن القابلية للتعليم المميز أعطت الطبقة التي استطاعت الحصول على التعليم المتقدم إحساسا وتميزا ورقيا عن باقي الطبقات، وتؤكد هذا الرأي رؤية ميشال لند في كتابه "الأمة الأميركية الثانية" الذي صنف فيه الطبقة العليا الحاكمة بالطبقة الأعلى. هذا الإشكال ممتد إلى بريطانيا "الحليف الرئيس لواشنطن" ولكن التجربة البريطانية مازالت مصابة بالماضي الأرستقراطي الذي لا يخفي المحافظون الأميركيون حسدهم لبريطانيا جراء بقائه، ثمة مكون رئيسي في ثقافة الامبراطورية الأميركية هو "الملكية الأميركية" المفتقدة. قانون ميشال دويل الذي يرى استحالة قيام حرب بين الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، لم يعد ذا أهمية تذكر كما يرى تود، إذ إن الشعوب التي تعيش في الأنظمة الديمقراطية لم تعد تمسك بزمام السلطة، وإنها أصبحت رهينة لعفونة الديمقراطية الغربية في مراحلها المتقدمة. نعم، كانت أميركا ناشئة عن أسطورة تاريخية تدعي الهروب من عالم فاسد إلى ارض الحرية والنعيم، من الديكتاتورية إلى أرض الأخلاق والتعددية، ولكنها معادلة أصبحت غير صالحة، فالأميركيون لا يستطيعون البقاء وحدهم، وهذا ما كان فرضا عليهم فترة "الحربين العالميتين"، وما اختاروه بمحض إرادتهم في التدخل في الشرق الآسيوي أو الصراع العربي الإسرائيلي أو حتى الحرب على الإرهاب، السؤال... هل كانت أميريكا من يسعى إلى التدخل، أم أنها الفتاة البريئة التي يجرها الذكور المنتشرون في الرواق للعراك. أميركا الامبراطورية، تسعى إلى السيطرة والزعامة، وهي في مسيرتها المشوبة بالمخاطر، تصطدم كثيرا بما يدعى بالإجماع الدولي، والذي لا تستطيع تهميشه في كل مرة. ولأميركا الامبراطورية ثلاثة خيارات: أولا: ألا يتم إيجاد الحل النهائي لموضوع ما لتبرير العمل العسكري الامبراطوري من قبل الدولة العظمى الوحيدة على مستوى العالم. ثانيا: التركيز على الدول الصغيرة أو التحالفات الضعيفة، مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية. ثالثا: تطوير أسلحة جديدة من شأنها أن تضع الولايات المتحدة على مسافة متقدمة جدا من أوروبا وروسيا، بحيث تصبح سيدة للعالم بلا منازع على أي مستوى من المستويات. إن حركة دمقرطة العالم مستحيلة، ويرى تود "وهي أقوى رؤاه في أطروحته التنبؤية " أن قيمة الحرية أصلية متجذرة في الجذور الأنجلوسكسونية والفرانكفونية، إلا أنها على الصعيد الألماني والياباني والروسي والصيني والعربي لا توجد أو أنها مشوهة، فاليابان ليست هي أميركا بعد دمقرطتها وكذلك إيران وكذلك روسيا، تلك الاختلافات تلعب دورا مهما وفاعلا في الصراع، إذ لا تكتفي الولايات المتحدة بدمقرطة العالم، لكنها تريد أن تكون دمقرطتها بمدى ملاءمتها الاقتصادية مع المؤسسة الاقتصادية والسياسية الأميركية. لن تنتهي معادلة الصراع الاميركية فهي امبراطورية صراع من الدرجة الأولى، وهذا إيذان بأن لا نهاية للصراع، وأن نهاية الصراع هي نهاية واشنطن. تواجه الأنجلوسكسونية مشكلة بدائية أنثروبولوجية، إذ إن علاقتها مع الآخر ذات تأزم مستمر، كما أن أكثر المحللين السياسيين الحاليين يذهبون بقوة إلى أن الإخفاق الأميركي في العراق هو إخفاق خطاب سياسي لا إخفاق استراتيجي عسكري، تلك اللغة الخطابية الاستفزازية كان لها تأثير مهم في تفعيل المقاومة العراقية. المشكلة الأميركية مشكلة خطاب لا مشكلة تخطيط.

روسيا الخائبة ستنمو

التنبؤ بصعود روسيا الاتحادية كقطب بديل لأميركا، وكحام للديمقراطية وشرطي للأمن الدولي، فيه مراهنة غريبة على اقتصاد متهالك يسير نحو ليبرالية لها طابعها الخاص الجديد. ويرى "تود" أن اليابان قادرة أن تلعب دورا حساسا في القوى الدولية، ويراهن على انفكاكها عن السياسة الأميركية. بالنسبة للحالة الروسية فكما ذكرت هي تعيش حالة مخاض طويل للتخلص من المؤسسة الماضية التي لها جذورها التي مازالت تسيطر على الكثير من المؤسسات الاقتصادية، كما أن فساد المؤسسة العسكرية الروسية عن أي تطور قد يمثل تهديدا لمشروع الدرع الصاروخي الأميركي. اليابان ليست منفكة أو مستقلة عن الاقتصاد الأميركي وحجم التبادل الاقتصادي قوة تصب لصالح الأميركيين، صحيح أن التبادل التجاري يصب لصالح اليابانيين، إلا أن ثبات "الين الياباني" يعتمد اعتمادا كليا على ثبات الاقتصاد الأميركي، بمعنى أن سقوط واشنطن هو سقوط لطوكيو في الوقت ذاته. ايمانويل تود، يؤسس مغالطة خطيرة في التبشير بليبرالية روسية ناجعة، ويضيف عليها مغالطة أخرى بأن ثمة مسيرة ديمقراطية قوية تكتسح العالم من دون أميركا، ويرى "أن الديمقراطيات المختلفة التي تنشأ في العالم ستضطر الولايات المتحدة إلى الركون بآلتها العسكرية جانبا". السؤال، هل أنظمة الحكم في الشرق الأوسط داخلة فعلا في تسارع سيسيولوجي نحو الديمقراطية؟ وهل الصين ديمقراطية؟ وهل روسيا الاتحادية ذات نظام ديمقراطي؟ وهل كان صدام حسين أو ملا عمر رجلا ديمقراطية وإصلاح؟ فلنسلم أن أميركا تتداخل بعنف في الكثير من المناطق ذات التأثير الاقتصادي على مصالحها، ولكن من صور ممارسة الخديعة على النفس أن ندعي أننا نعيش في عالم ديمقراطي باستثناء أميركا الديكتاتورية. يدعو تود إلى مقاطعة الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، "لنترك أميركا الحالية تستنفذ ما بقي لها من طاقة في محاربة الإرهاب، تلك الحرب التي تسعى من ورائها إلى الاحتفاظ بهيمنتها التي لم تعد موجودة، وإذا أصرت على أن تثبت قوتها الهائلة فإنها لن تفلح في أكثر من أن تكشف للعالم عن عجزها". يكرر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً