من جديد انتقدت الإدارة الأميركية الإعلام العربي وحملته مسئولية فشل سياساتها في العراق وأفغانستان. وهذا النقد الذي كرره الكثير من المسئولين الأميركيين للصحافيين العرب واتهامهم بالتحريض والكراهية والحض على العنف وتبرير "الإرهاب" لاقى الترحيب من بعض الأنظمة العربية التي ترغب دائما سماع مثل هذه الملاحظات. فتلك الأنظمة تجد في الملاحظات الأميركية القاسية نقطة مهمة تتقاطع فيها المصالح المشتركة. فالأنظمة تلك تعتبر أن مثل هذا النقد يعزز تصوراتها السابقة ويؤكد تلك المخاوف من الإعلام ودوره السلبي في تأليب الرأي العام ضدها. نقطة التقاطع هذه تلقي الضوء على زوايا غامضة في معنى "الحرية" الأميركية وتحديدا حين تسهب الإدارة في شرح وجهة نظرها المتعلقة بالإصلاح والمكاشفة والتمكين وتعدد الآراء وتنوع الأحزاب. فهذا النوع من الإسهاب يتراجع عن سياسته المبدئية حين يصطدم بواقع يعارض السلوك الأميركي في المنطقة العربية. الإدارة في توجهها هذا تتشابه مع تلك الأنظمة التي لا ترغب في سماع آراء لا تتناسب مع رؤيتها للأزمات وما يتفرع عنها من تداعيات سياسية. وفي هذا المعنى لا تختلف الإدارة عن تلك الأنظمة في الجوهر العام. فواشنطن أيضا لا تريد سماع وجهات نظر عربية تتعارض مع استراتيجيتها في المنطقة. وحين تصدر ملاحظات عن صحافيين وصحف عربية للسياسة الأميركية تأخذ الإدارة صفة "المدعي العام" وتبدأ بتحميل مسئولية فشلها لتلك الآراء السلبية. فالحرية في طبعتها الأميركية الجديدة ليست بعيدة عن مفهوم "الحريات" الذي اعتمدته بعض الأنظمة وخلاصته: الانسجام المطلق مع رؤية النظام. هذه الإحالة التي تلجأ إليها واشنطن دائما تفضح طبيعة المشروع الذي تريد الولايات المتحدة فرضه من طريق القوة العسكرية على شعوب المنطقة. وهي لأنها ترى في القوة وسيلة مشروعة للإسراع في تمرير السياسة التقويضية تجد في المخالفات معاكسات سيئة تعطل عليها هامش الحركة وتوفر الفرص للمقاومين بتسديد ضرباتهم ضد المشروع. السكوت على الحق وقبول الباطل والتغاضي عن الكوارث التي جلبها الاحتلال معه كلها مجموعة عناصر تريد ترويجها واشنطن لتبرير إنفاقها المالي على مشروع أسهم حتى الآن في زعزعة الاستقرار واستنفار العصبيات وتثوير الناس ضد بعضهم بعضا. وغير ذلك تعتبره الإدارة خطة مشاكسة تغذي شبكات "الإرهاب" وتشجعها على العنف. هذه "الفلسفة" الغبية تقلب الحقائق وتعطي شرعية أخلاقية لتلك الأنظمة التي تعتبر نفسها كاملة ومكتملة، وتتعرض إلى افتراءات تختلقها بعض الجيوب الإعلامية لأغراض غير مفهومة. فالغباء في "فلسفة" الإعلام الأميركية لا يختلف كثيرا عن إعلام تلك الأنظمة في الحيثيات والقرائن. فالأنظمة تلك تقول إنها قامت بواجباتها ولم تقصر في خدمة شعوبها وتتهم الناس بنكران الجميل. والاحتلال الأميركي يكرر مقولات الأنظمة حين ينتقد الإعلام العربي واعتراضاته على تلك المسلكيات المزدوجة في التعامل مع "الحق" و"الباطل" في الموضوع الفلسطيني مثلا. فالولايات المتحدة تريد من الصحافيين العرب التعامي وتغطية الفضائح وتحميل الشعب الفلسطيني مسئولية عرقلة السلام ومباركة سياسة شارون والدفاع عنه. هل هذا مطلوب من الإعلام العربي حتى يرضى جورج بوش عن الصحافيين العرب؟ هذا لا تقوله الإدارة مباشرة ولكنها حين توجه سهام النقد تشير مداورة إلى اتهامات غامضة الأهداف ومن دون تحديد أسماء الموضوعات المطلوب الالتفاف حولها وتزوير الحقائق بشأنها. فالإدارة لا تحدد مضمون الملاحظات ولكن الصحف العربية تعرف مقاصد ذاك النقد ومواصفاته انطلاقا من وعي نقدي للسياسة الأميركية التقليدية. وهي سياسة راكمت مجموعة من الأخطاء من الصعب تجاوزها إذا لم تعدل واشنطن توجهاتها. فالمسألة في النهاية ليست في دفاع الإعلام العربي عن قضاياه العادلة، وإنما في انحياز السياسة الأميركية إلى العدوان الإسرائيلي وامتداداته الإقليمية واتصاله بذاك الاحتلال من أفغانستان إلى العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1151 - الأحد 30 أكتوبر 2005م الموافق 27 رمضان 1426هـ