مهم جدا هنا وفي المملكة العربية السعودية، هذا الجزء الرئيسي من العالم الإسلامي، أن يشتغل المفكرون والمثقفون والمستنيرون، من أبناء هذا المجتمع، وهم من ثقافات وأطياف ومدارس مختلفة، في رسم صورة الآخر وكيفية التعامل معه، وأن تناقش هذه العلاقة في الهواء الطلق، متسمة بقدر كبير من الوضوح والشفافية. كانت صورة الآخر فيما مضى ترسم في الدهاليز المظلمة والغرف المغلقة والمساجد النائية من هنا وهناك، وكانت المواقف تستنبت في عقول الأجيال بالكثير من وسائل التسميد الكيماوي الضارة، لتنتج نبتا "لا يأكله إلا الخاطئون"، الذين يستهويهم التشنج والتحريض والحقد والكره والانتقام، ليصل بهم المطاف إلى واقع التطبيق العملي لنظرية صراع الحضارات. آن الأوان لتجفيف هذا الزبد المنتن عبر تفتيح العقول ومخاطبتها وإنارتها بالأطروحات الدينية الصافية، والأفكار الإنسانية النيرة، عبر مختلف الوسائل المتاحة، كي يحل ما ينفع الناس ويمكث في أرضية القلوب والأذهان، إعدادا لنبت مختلف ألوانه، لكنه يصب في مصلحة إنسان هذه الأرض وحبه والرأفة به. جميل جدا من المسلسل الشعبي "طاش 13" أن يعرض في إحدى حلقاته هذا العام صورة متقنة لما عليه واقع الحال الذي تتشكل به صورة الآخر في أذهان شبابنا، وأن يشير إلى أهم آلية تستخدم في هذا الرسم المقلوب. لقد كشف القناع في عمل مبدع وخطير عن آلاف الشباب الذين تأخذهم الخديعة وتنطلي عليهم الشعارات. في هذا المضمار، يمكن الحديث عن ثلاث آليات استخدمت لتشويه صورة الآخر في أذهان الشباب والناشئة، فحملت نفوسهم كرها لا تطيقه الجبال، وأوغرت قلوبهم حقدا لا يشفيه إلا الانتقام. الآلية الأولى هي استخدام الدين بطريقة انتقائية مقصودة، واستلال آيات القرآن الكريم للتعامل معها منفصلة عن المناخ الذي نزلت فيه، وعن السياق الكاشف لمعناها، وعن بقية الآيات القرآنية المظهرة للمراد منها، لتأتي بعد ذلك مرحلة أخرى هي عجن الآيات لتساير هوى القائم بصوغها وعجنها، ثم إخراجها في لباس قرآني تشم منه رائحة القتل والكره والانتقام. يقول القرآن الكريم محذرا من هذه العقلية التي تحمل القرآن الكريم خطاياها وإساءاتها "وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها" "الاعراف: 28"، ثم يأتي الخطاب القرآني ليقطع هذا الطريق الخطير بقوله تعالى: "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون" "الاعراف: 28". الآلية الثانية هي الاستفادة من التاريخ والتلاعب بحوادثه وقلب حقائقه وتجييرها حتى تصب في خدمة ما أعد لها من قوالب جاهزة ومحددة الأهداف. في هذه الآلية يتسامح عادة في قبول ما ضعفه المؤرخون من حوادث وقصص ومقولات، ويتجاوز عن سماحة مبلغ الرسالة وخاتم الأنبياء ورجالات الإسلام المتأسين بأخلاقه صلى الله عليه وآله وصحبه، لتسلط العيون على مشاهد مشبوهة من الغلظة والقساوة التي لم يخل منها تاريخ المسلمين في غالبية عهوده وحقبه. ويزداد الفكر خطرا هنا حين يعقد التزاوج بين آيات القرآن الكريم المنتزعة من سياقها وموقعها، كما أسلفت وبين هذه الحوادث التاريخية المشكوكة أحيانا، أو التي تغلب لتصبح هي التاريخ الأنصع للأمة، حينها يكون الجيل الشاب أمام كارثة حقيقية تلهمه كل مستلزمات ثقافة الكره والتشفي والموت. الآلية الثالثة هي الاستفادة من روح الإحباط والهزيمة التي منيت بها الأمة العربية والإسلامية أمام القوي الذي لم يوفر لها ما تبرر به تقاعسها وانهزامها، بل أوغل يهين كرامتها ويحقر دينها ويستخف بمقدساتها. هذه الروح اليائسة شكلت أرضية خصبة لانطلاق الطاقات الشابة وتحفزها إلى الموت الذي هو خير من حياة الذل والهوان. وساعدت الحكومات العربية والإسلامية بتعاملها الفاتر أحيانا وغير المكترث في أحيان أخرى، لما يحدث للمسلمين من أهوال ومصائب، وما ينال الدين من إهانات وتحقير في تأجيج روح الغضب والثأر. كما أن الفراغ في الموقف الذي تركته الحكومات شاغرا، أغرى كثيرين للأخذ بزمام المبادرة والمواجهة حسب منطق القوة الذي شخصته المجاميع التي ارتأت تسمية نفسها بالجهادية، وكانت النتيجة الفعلية لهذه المبادرات هي التحاق آلاف الشباب بهذه الأطر والأطروحات، وبتسليم مطلق كانوا يستقبلون الأفكار والرؤى وحتى الصور التي تعطى لهم مرسومة عن الآخر من دون أية تعديلات يدخلونها على ريشة الرسام. طبعا، لم يكن كل ذلك يجري خلف الستار، ولم يكن بحسب المثل الشعبي "أمر بيت بليل"، بل لابد من القول أمانة وصدقا إن هذه الآليات لم تكن قادرة على تفريخ ما فرخت لو لم يساعدها أمران رئيسيان، أحدهما المباركة التي حظيت بها هذه التوجهات كما حصل في الحرب ضد الجيش السوفياتي على الأرض الأفغانية، وثانيها الصمت الذي خيم على المفكرين والمتنورين ومن على شاكلتهم ومسلكهم من المثقفين ورجال الدين المعتدلين. الآن، وقد بدأ الحديث عن الآخر علنيا ومكشوفا، ومع اقتراب مؤتمر الحوار الوطني الخامس، هل سنشهد زمنا قريبا يتغير فيه التعامل مع تلك الآليات لترسم صورة الآخر من جديد، ولنعوض عن السمعة السيئة التي رسمها العالم عنا "نحن السعوديين" جراء تصرفات هوجاء عم سوءها ليشملنا جميعا ويضعنا في خانة الاتهام والتشويه؟ هل ستعلو قريبا صورة الإنسان المكرم وسنفخر أمام العالم بأن هذا الإنجاز رأى النور على أيدي العقلاء والمستنيرين وأصحاب العلم والفضيلة من السعوديين، وحينها سنتمكن من القول وبصوت مرتفع إن هذا الإنتاج صنع في السعودية... وإننا بريئون من الصناعات السابقة ومعتذرون عنها؟ * كاتب وعالم دين من المملكة العربية السعودية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ