نشرت مجلة "شتيرن" الألمانية مقالا تحليليا عن صدور تقرير القاضي الألماني ديتليف ميليس، الذي تولى التحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، بتكليف من الأمم المتحدة. وبذلك انتقل الملف من الحدود الوطنية ليأخذ أبعادا دولية صاخبة، خصوصا بعد أن اتضح ان من بين المتهمين صهر الرئيس السوري بشار الأسد. وفيما يأتي نقدم ترجمة للمقال الذي يتناول التقرير. الحرب أو السلام، هذا هو السؤال. ففي الأول من أكتوبر/تشرين الأول ناقش مسئولون أميركيون في اجتماع مهم مسألة القيام بعمل عسكري ضد سورية. وقام بعضهم بتسريب معلومات عما دار في الاجتماع السري نشرتها مجلة "نيوزويك" الأميركية، والتي كتبت تقول إن وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس عارضت شن حملة عسكرية على سورية، وطلبت من الحاضرين التمهل حتى تتمكن من قراءة تقرير ديتليف ميليس، على أساس توقعها أن يدفع التقرير بالرئيس السوري بشار الأسد إلى الزاوية. من ناحية ديتليف ميليس، فإنه كان يشعر بالقلق بشأن نتائج التحقيقات، وكان يخشى على الأكثر أن يتسبب تقريره بقيام الولايات المتحدة بشن حرب جديدة في الشرق الأوسط، فهو يقول: "لا أريد أن تتم مقارنتي برئيس لجنة التفتيش الدولية في العراق هانز بليكس، ولكني أعرف الآن كيف كان يشعر بليكس". فقد كان الأميركان يطلبون من زميله السويدي الحصول على الضوء الأخضر لشن حملتهم العسكرية ضد صدام حسين، فكان يتعين عليه العثور لهم على أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة في الأصل! ميليس طبعا لا يبحث عن أسلحة الدمار الشامل، وإنما يبحث عن قتلة الحريري. وبتكليف من الأمم المتحدة أوكل للمدعي العام البرليني الأعلى التحقيق للكشف عن جريمة اغتيال رفيق الحريري وعشرين من أتباعه، سقطوا كلهم ضحايا عملية تفجير قنبلة ضخمة عند مرور موكبه وسط بيروت. وبعد مرور 24 ساعة فقط على العملية وبينما مازالت النار مندلعة في المكان وفي المنازل المجاورة ولم يكن قد تم التعرف بعد على هويات الضحايا، توصلت الولايات المتحدة إلى الطرف المذنب المسئول عن الجريمة: سورية. بالنسبة إلى إدارة الرئيس جورج بوش فإن الحريري الذي صنع ملياراته بنفسه قبل أن يدخل معترك السياسة، كان يصبو إلى أن يستقل لبنان عن الجار القوي، ولهذا جرى القضاء عليه. وسحبت واشنطن سفيرتها من دمشق وهددت رايس سورية بعقاب شديد. ونزل في بيروت مليون متظاهر إلى الشوارع وكتب لهم النجاح، إذ قامت سورية بسحب جنودها البالغ عددهم أربعة عشر ألف جندي من لبنان، لكن ظل السؤال الذي يبحث عن إجابة: من اغتال الحريري؟ سمع ميليس في منتصف شهر مايو / أيار بقرار تكليفه من قبل الأمم المتحدة للكشف عن الجريمة وكان يقضي إجازة في جزيرة مايوركا باسبانيا. وكان ميليس البالغ 56 عاما من العمر قد حصل على سمعة دولية من خلال دوره كمحقق بقضية "لابيل". لم يتردد ميليس في قبول العرض وقال: كان واضحا بالنسبة إلي أنها أهم قضية في حياتي. قام بشراء سترتين صيفيتين وعدد من القمصان والأحذية وتوجه من بالما إلى نيويورك للقاء الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، ثم توجه إلى بيروت وفي المطار كان بانتظاره وزير وسياسيون وعسكريون كبار وجمع كبير من الصحافيين. في هذه اللحظة أدرك ميليس كم كبيرة التوقعات المنتظرة منه. قبل توجهه إلى الفندق، زار ضريح الحريري المحاط بالصور الملصقة على الجدران. وتعرض لوحة إلكترونية عدد الأيام التي مرت على وقوع الجريمة دون التوصل للقبض على القتلة. تم تحديد مدة التحقيق بثلاثة أشهر بالإمكان تجديدها مدة مماثلة على حد أبعد. ليس هذا وقت كثير للكشف عن جريمة كبيرة وخصوصا أن ميليس احتاج إلى 15 سنة حتى تمكن من إغلاق ملف "لابيل". في اليوم التالي زار ميليس أسرة الحريري حيث تحدث مع الأرملة ومع بناتها. ثم ظهر سعد الحريري، الذي تنعقد عليه الآمال ليخلف والده في حكم لبنان وقال للمدعي العام الدولي: هل أنت قادر فعلا على الكشف عن خلفية جريمة اغتيال والدي؟ ما يخشاه حريري جونيور على الأكثر، أن فشل التحقيقات في الكشف عن هويات المجرمين وخصوصا أن الإحصاءات تثبت مخاوفه: إذ لم يتم الكشف عن خلفية جريمة اغتيال واحدة من عدد كبير من الاغتيالات التي حصلت في لبنان بعد نهاية الحرب الأهلية التي دامت 15 عاما. في مستهل عمله قام ميليس بوضع قائمة بأسماء معاونيه وعسكر في فندق"موفينبيك" إذ حول الطبقة السادسة فيه إلى مقر محصن لبعثة الأمم المتحدة. سرعان ما وردته طلبات الانضمام لفريقه من مختلف أنحاء العالم من بينها طلبات أرسلها قضاة إيطاليون أرفقوها بكتاب تزكية وقع عليه رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني. لكن ميليس لم يشعر أنه بحاجة إلى قضاة بل إلى محققين لهم خبرة واسعة واختار من يعرفهم من ألمانيا مثل المدعي العام في مدينة فرانكفورت أخيم تيل وزميله غونتر نايفر من مدينة كليفي، وخمسة من المحققين الكبار في مكتب الجنايات الفيدرالي بينهم المحقق رقم واحد الذي يعرف باسم جيرد. ل الذي دفع ميليس للقول: مشاركة جيرد. ل بالتحقيقات من أبرز الشروط التي وضعتها. على رغم أن ميليس نفسه كان يجد أن فريقه لم يكتمل بعد، فإنه أعلن في منتصف شهر يونيو / حزيران أن فريق التحقيق أصبح جاهزا. بعد أربعة أيام قام فريق التحقيق الدولي بأول خطوة لفتت الأنظار. فقد تمت مداهمة منزل ومكتب رئيس الحرس الجمهوري مصطفى حمدان الذي سعى بعد وقوع الانفجار إلى إزالة آثار مهمة من مكان تنفيذ عملية الاغتيال. تم ردم شظايا القنبلة بناء على أمر منه. بدأ ميليس يفرض شخصيته. فقد قدم الدليل القاطع على أنه جاد في ما يعنيه. بعد 24 ساعة انفجرت عبوة ناسفة تحت مقعد سياسي لبناني مناهض لسورية. وقد التصقت بقايا أشلاء الضحية بالسلاح الذي كان يحمله السياسي لحماية نفسه. السكون يخيم على الغرفة التي يجلس فيها ميليس وهو يدقق بصور الحادث. هل أصبح القتلة على مقربة منه؟ تم على الأثر تشديد الحراسة الشخصية على ميليس بحيث لا يسير خطوة دون حرسه الشخصي حتى لو توجه إلى المرحاض. ويتم إرسال ملابسه الداخلية للغسيل تحت اسم مستعار. في مطلع شهر يوليو / تموز أتم ميليس تشكيل فريقه وأصبح آمرا على مئة موظف بينهم ثلاثون من المحققين من مختلف أنحاء العالم. كان يعمل ميليس في ألمانيا في السابق مع خمسة موظفين ولم يكن عليه الاجتماع مع سفراء ووزراء بصورة دائمة. لكن ميليس الذي لا ينتمي لأي حزب سياسي في بلده يتنقل منذ وقت كواحد من الشخصيات المهمة جدا على المسرح السياسي في لبنان. لأسباب أمنية تم تحويل مقر إقامة ميليس في فندق"موفينبيك" إلى حصن منيع تحيط به مصفحات قوى الأمن اللبناني وأمامه ثلاثة حواجز تقوم بالتدقيق من خلو السيارات العابرة من السلاح والعبوات الناسفة. قام فريق الأمم المتحدة باستجواب 400 شخص بينهم الرؤساء السابقون لأجهزة الأمن اللبنانية. كما قام خبراء أتوا خصيصا من الخارج بقلب كل حجر في مكان وقوع الانفجار. بينما قام خبراء آخرون بمراجعة المكالمات الهاتفية التي تمت قبل وقوع الانفجار لغرض التوصل لمعرفة القتلة بواسطة الاتصالات عبر الهاتف الخليوي. تم التوصل لمعرفة أن ثمانية أشخاص على الأقل شاركوا في عملية الاغتيال، بينما يعتقد أن عدد المشاركين بالعملية بشكل كامل يصل إلى .20 تم استبعاد سيناريو عملية انتحارية التي كانت معرض مناقشات مستمرة في لبنان. تبين للمحقق الدولي ميليس أن اغتيال الحريري نفذه عملاء أجهزة استخبارات، وقد حصل على تأكيد لنظريته من طرف لم يتوقعه: المخابرات السورية. عميل سابق في الجهاز السوري فار ذكر أسماء أشخاص يشك بعلاقة مباشرة لهم بقضية الاغتيال. تم نقل العميل السابق إلى مكان سري في أوروبا إذ كان أحد المحققين يزوره باستمرار لمتابعة استنطاقه ثم التأكد من حقيقة اعترافاته. في نهاية شهر أغسطس / آب شعر ميليس أنه قطع شوطا مهما في سير التحقيقات فأمر بإلقاء القبض على أربعة أشخاص بينهم حمدان وثلاثة من الرؤساء السابقين لأجهزة الأمن اللبنانية. جميعهم يصرون على براءتهم وأكثرهم إصرارا جميل السيد الذي كان أقوى مسئول أمني في لبنان الذي يقول: أنا مستعد للذهاب لآخر الدنيا لإثبات براءتي ولم يخف خلال عملية الاستنطاق الأولى أنه تناول طعام العشاء على مائدة واحدة مع السفير الأميركي في لبنان قبل أيام قليلة سبقت اعتقاله. جميل السيد كان يرتبط بعلاقات وثيقة مع المخابرات الألمانية أيضا. كان بالنسبة لكبار المسئولين في الجهاز الألماني أهم رجل في منطقة الشرق الأوسط، قاموا بزيارته باستمرار في بيروت لمقابلته. كما أوفد قائد الحرس الجمهوري مصطفى حمدان قبل عامين مجموعة من رجاله إلى ألمانيا للحصول على تدريب من قبل خبراء مكتب الجنايات الفيدرالي للكشف عن عبوات ناسفة. حين تم الإعلان عن اعتقال المتهمين الأربعة حصلت تظاهرات في مدينة صيدا جنوب لبنان ومسقط رأس الحريري وصاح المتظاهرون باسم ميليس... أصبح المدعي العام البرليني نجما في لبنان. في الماضي كان اللبنانيون يرحبون بالسياح الألمان بذكر اسم بيكنباور لاعب الكرة الألماني الشهير،أما اليوم فيستخدمون اسم ميليس. ويشاع أن بعض اللبنانيين أطلقوا على مواليدهم الجدد اسم ميليس. بعد مناقشات طويلة استطاع ميليس أن يسافر إلى دمشق بتاريخ 20 سبتمبر/ أيلول لاستجواب عدد من السياسيين ورؤساء أجهزة المخابرات. كانت طائرة مروحية تابعة للجيش اللبناني ترافق موكب ميليس حتى نقطة الحدود مع سورية. بعد ذلك فإن أمنه بات بأيدي حرسه الشخصي. أصر السوريون على عدم استجواب الأشخاص في مباني الحكومة وتم الاتفاق على اللقاء في فندق "روزا" وراء الحدود. في هذا الفندق قام ميليس باستنطاق نائب وزير الخارجية السوري ومدير قسم مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات. ثم جاء دور رستم غزالة الذي كان رجل سورية في لبنان حتى انسحاب الجيش السوري من بلاد الأرز. وذكر ضحايا التعذيب أن غزالة كان يمارس تعذيب الأشخاص بنفسه أحيانا. قرأ ميليس عليه حقوقه وعلى رغم أن غزالة يعرف اللغة الإنجليزية فإن المترجم المغربي الذي يعمل مع فريق ميليس كان يردد بالعربية ما يقوله ميليس. أوضح الأخير لغزالة أنه لا يستنطقه كشاهد في القضية وإنما كمتهم. خمس ساعات أمضاها ميليس مع غزالة الذي قال: أحب جميع اللبنانيين وأحببت الحريري بصورة خاصة. لكن ميليس كان يحتفظ بورقة مهمة في يده. نظرا لصلته القوية بأعضاء في الحكومة السورية تمكن من إلغاء الحسابات المصرفية لعدد من المتهمين. ويمنحه قرار المجلس الأمن رقم 1595 صلاحيات واسعة كما سعت الولايات المتحدة للضغط على سورية كي تتعاون مع المحقق الدولي. عند النظر في الحسابات المصرفية للمتهمين وجد المحققون أن غزالة يملك أرصدة في مصرف بيروتي قدرها 20 مليون دولار. سأله ميليس كيف استطاع جمع هذه الأموال؟ فكر غزالة طويلا قبل أن يجيب قائلا: ما علاقة أموالي بمقتل الحريري؟ لم يعلق ميليس واكتفى برؤية السوريين الموجودين في غرفة التحقيق ينظرون باستغراب لبعضهم بعضا. كل شخص في الغرفة يعرف أن رئيس المخابرات يتقاضى أجرا شهريا قدره ثلاثة آلاف دولار. المال دافع قوي أيضا لارتكاب عملية قتل. كان الحريري يرغب في وضع نهاية لعقلية السوريين في خدمة أنفسهم بأنفسهم في لبنان ووقف أعمال النهب. في الأيام التالية استجوب المحقق الألماني سبعة من كبار المسئولين في المخابرات السورية بينهم آصف شوكت صهر الرئيس السوري بشار الأسد وأحد أبرز معاونيه. وفقا لمعلومات حصلت عليها مجلة "شتيرن" لم يجر استجواب شوكت كشاهد وإنما كمتهم. يوم الأربعاء الماضي تطرق الرئيس الأسد لأول مرة بشكل واضح حول النتائج المحتملة لتحقيقات ميليس، وقال إنه في حال الكشف عن تورط مواطنين سوريين في عملية الاغتيال سيعاملون كخونة لبلدهم وسينزل بهم أشد عقاب وأضاف في مقابلة أجرتها معه محطة الـ "سي ان ان" الأميركية: إذا لم تقم محكمة دولية بمعاقبتهم سيحاكمون في سورية. في الوقت نفسه كان وزير الداخلية السوري غازي كنعان يتحدث مع الراديو المسيحي "صوت لبنان". كان كنعان حتى العام 2003 رجل سورية في لبنان. وقد استجوبه ميليس أيضا ولكن بوصفه شاهدا فقط. على رغم ذلك صرح كنعان خلال المقابلة أنه سيكشف عن براءته. وأكد أن علاقة سورية مع الإخوة في لبنان قائمة على الحب والاحترام. في ختام المقابلة رجا المذيعة على الطرف الآخر أن توزع نص المقابلة على سائر وسائل الإعلام ثم قال: أعتقد أن هذا إعلاني الأخير. بعد وقت قصير وجد كنعان ميتا في مكتبه، ووفقا لما ذكر، وضع مسدسا في فمه وأطلق رصاصة قاتلة. بعد ساعات سرت شائعات تشك في أن يكون كنعان قرر بنفسه وضع نهاية لحياته. في الأسبوع الماضي جلس ميليس يعد تقريره في مدينة فيينا. وقد استمتع بوجوده في مكان يشعر فيه بحرية التنقل الأمر الذي لم يتسن له في بيروت. قبل مغادرته لبنان دعت جماعة إسلامية تطلق على نفسها اسم "جند الشام" إلى قطع رأس ميليس، وقالت إنه عميل للموساد الإسرائيلي. يشعر اللبنانيون بأسف لأن ميليس غادر لبنان وقد رجاه رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة أن يمدد مهمته في لبنان، كما اتصل هاتفيا بالأمين العام للأمم المتحدة إذ طلب منه تمديد مهمة ميليس. رد ميليس بالقول: لسنا قوات القبعات الزرقاء بل نحن محققون. لكن في الغضون طلب عنان أن يعود ديتليف كما ينادي ميليس إلى بيروت والبقاء حتى موعد أقصاه الخامس عشر من ديسمبر. في الغضون يكون ميليس قد سلك تقريره يوم الجمعة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. يوم الثلثاء المقبل سيعرض التقرير على مجلس الأمن الدولي لبحثه. وقد علق الرئيس الأميركي بوش على هذه المسألة: لن أشير إلى تقرير ميليس ولكن العالم ينتظر من سورية أن تقبل الديمقراطية في لبنان
العدد 1148 - الخميس 27 أكتوبر 2005م الموافق 24 رمضان 1426هـ