من أجمل ما يميز شهر رمضان المبارك، تلك الغلالة الروحانية الرقيقة التي تداعب القلوب. .. أليس الشهر شهر الله، والعباد مدعوون لضيافته؟ في هذا الشهر المبارك، تتميز أيامه ولياليه بالعبادات، وتتعطر أوقاته بالأدعية المخصصة لكل وقت من أوقاته، صباحا ومساء وسحرا، فلكل يوم وليلة دعاء مخصوص، يرقق القلب ويزيل عنه شيئا مما ران عليه من صدأ الشهور. من بين أجمل وأرق الأدعية التي يكررها المسلمون في هذا الشهر، دعاء عام له طابع اجتماعي واسع، يتلونه في أعقاب كل فريضة، يترجم اهتمام الاسلام بناحية التكافل الاجتماعي وإشاعة روح التوادد واستشعار محبة الآخرين. وهو أمور يوليها الاسلام جانبا كبيرا من توجيهاته، ويربي أتباعه على الالتزام بها كسلوك يضمن إشاعة روح السعادة بين البشر. لنقرأ هذا الدعاء الرقيق: "اللهم اغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم اقض دين كل مدين، اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم سد فقرنا بغناك، اللهم غير سوء حالنا بحسن حالك، واقض عنا الدين واغننا من الفقر...". يبدأ الدعاء بأمنية أن يغني الله كل فقير، وينتهي بأمنية الخلاص الجماعي من الفقر، وما بين الأمنيتين يحلق المرء في مستوى عال من الذوبان في حب المجتمع. فهو يدعو بإشباع كل جائع، وكساء كل عريان، وقضاء دين كل مدين... انتهاء بإصلاح حال المسلمين المتردية منذ قرون. هذا الدعاء السلس، بمفاهيمه البسيطة، ولغته التي تخاطب القلوب مباشرة، يخرج الإنسان من سجن "الأنا" إلى فضاء التحرر الاجتماعي، فمهما صلح حال الإنسان كفرد، فانه لن يشعر بالسعادة مادام إلى جواره جياع معدمون، إذا كان حي الضمير سليم الوجدان، لم تلوثه المادية بأتربتها. وفي السياق ذاته، نرى استثمار الإسلام كل مناسبة بتوجيه الناس إلى البذل والعطاء، في سبيل بناء مجتمع متكافل تشيع بين أفراده قيم الرحمة والرفق والتعاطف، وهو ما تعجز عنه كل فلسفات الدنيا ونظرياتها، مما قبل الأغريق حتى ما بعد ماركس. وفي رمضان تحديدا، يستثمر الإسلام هذه الأجواء الروحانية الخاصة، لتعزيز هذا التوجه، بدءا من الترغيب بإفطار الصائمين، مرورا بالحث على التصدق في ليالي القدر، وانتهاء بإكمال الشعيرة "الصيام" بدفع زكاة الفطرة، لتصب كلها في اتجاه خدمة هذا الإنسان الذي كثيرا ما تجور عليه الأنظمة، وتقصر في العناية به الحكومات، فتأتي يد السماء بوسائلها المتنوعة لتمد له يد العون والمساعدة. عودا لمفردات الدعاء، ألا يحس كل من يقرأه بأنه معني بما فيه؟ ألا يشعر بأنه يدعو لنفسه أيضا في الوقت الذي يدعو فيه لجيرانه وأهله وأصدقائه ومحبيه، وفي الإطار الأوسع لعموم المسلمين؟ وهل سيجد إنسان هذا العصر المضطرب مدرسة تربي فيه النزعة الانسانية خيرا من هذه المدرسة الروحانية التي تتفنن في ترقيق القلوب؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1148 - الخميس 27 أكتوبر 2005م الموافق 24 رمضان 1426هـ