الانتقادات التي أطلقها المستشار السابق للأمن القومي الأميركي برنت سكوكروفت في مجلة "نيويوركر" لسياسة الرئيس جورج بوش بشأن الحرب على العراق جددت عناصر القوة في نظرية "المؤامرة" حين أعاد توضيح ملابسات تشير إلى وجود قرار خططت له وحرضت عليه مجموعة شريرة في "البنتاغون". المستشار سكوكروفت ليس شخصا عاديا ولا يعتبر من المعادين للصقور وإنما يصنف من الشخصيات التي لعبت دورا في إدارتي جيرالد فورد وجورج بوش "الأب". فالمستشار ابن المؤسسة الحاكمة التي تشرف على تنظيم شئون الإدارة وترسم سياساتها وتخطط في صنع استراتيجيتها الخارجية. فهذا "الابن" كشف لعبة المؤسسة بعد استقالته "تقاعده" وأظهر خيوط المؤامرة وأوضح الدور الخاص الذي لعبه نائب الرئيس الحالي ديك تشيني في توريط إدارة "البيت الأبيض" في الانزلاق نحو سياسة إعلان الحرب على العراق. نظرية "المؤامرة" إذا لها ما يبررها وهي ليست كلها من اختلاق بعض المثقفين العرب. فالوقائع تؤكد صحتها وكل يوم يمر تتكشف مجموعة أوراق من ذاك الملف الرهيب الذي أشرفت تلك الكتلة الشريرة على تأليفه ووضعه كبرنامج عمل يومي على طاولة الإدارة الأميركية. "المؤامرة" موجودة ولكنها ليست كافية لقراءة مختلف جوانب المأزق، كذلك تغييبها عن المشهد فكرة خاطئة، لأن السياسات الدولية لا تقوم على البراءة والعفوية وإنما تتأسس وفق معطيات تبرر السيناريو المبرمج. فالمؤامرة ليست متشكلة من مجموعة أوهام ومخاوف "فوبيا"، بل هي أساسا نتاج خطط عقلانية ومدروسة تعتمد مناهج علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والتربية. وهي واقعية في الخلاصات ودقيقة في المعلومات وحساسة في استنباط الحسابات والأحكام. وبقدر ما تكون "المؤامرة" مبنية على وقائع بقدر ما تصيب النجاح النسبي وتتوافر لها إمكانات الفوز. مثلا، المؤامرة على العراق لم تخترع عناصرها لتبرير الحرب وإنما استخدمت بعض الوقائع وقامت بتضخيمها والمبالغة في مخاطرها وتطوير سلبياتها واختلاق بعض الأعذار لتغطية مسبباتها... وأخيرا إقناع الرأي العام بفوائدها وحسناتها وضرورة الإقدام عليها لتحسين ظروف الحياة وإنقاذ الناس من خطر مقبل. الطائفية والمذهبية والتفرقة المناطقية والأقوامية والاستبداد العائلي "الأسري" العشائري لم تختلقه المؤامرة الأميركية على العراق. فكل هذه السلبيات كانت موجودة وإدارة "البيت الأبيض" كانت على دراية بها، ولذلك لجأت إلى استغلالها وتوظيفها لخدمة مشروع يهدف في النهاية إلى تقويض الدولة وتفكيك العلاقات الأهلية وإلغاء الهوية الجامعة "الإسلامية/ العربية" وتأسيس دويلات فيدرالية تشطب العراق من الخريطة السياسية العربية. المؤامرة إذا هي مزيج من التخطيط والوقائع. وهي حتى تلاقي النجاح تعيد إنتاج المعلومات وتقوم بتدويرها وإعادة توظيفها في سياق سيناريو يلجأ إلى وسائل مختلفة للوصول إلى الهدف. وكل هدف له وسيلته كما قال مرارا جورج بوش الابن. ولكل دولة هناك خطة لها تعتمد على أسلوب لا يتفق بالضرورة مع دولة أخرى. فالخطة التي اتبعتها واشنطن في أفغانستان مثلا ليست هي ذاتها تلك التي استخدمت مع العراق. والخطة التي اتبعت مع السودان واليمن وليبيا ليس بالضرورة أن تكون مشابهة لتلك التي يهدد باعتمادها في التعامل مع الملفين السوري والإيراني... أو مع تلك "الدولة الفلسطينية" المؤجلة دائما. هناك "مؤامرات" أو سيناريوهات وليس مؤامرة واحدة. ولكل واحدة طبيعتها الخاصة وطبعتها المختلفة التي تعتمد كثيرا على الظروف والمعطيات والحيثيات. بعض الدول استخدمت معها الإغراءات الاقتصادية. وهناك دول استجابت بمجرد التلويح بمطرقة التهديد. فلكل دولة سياسة. وكل سياسة تعتمد على وسائل غير متطابقة بالضرورة مع بعضها بعضا. هذا التنوع أو التنويع في المؤامرات "السيناريوهات" أشارت إليه مرارا تصريحات الكثير من المسئولين الأميركيين منذ بدء الحملة على ما أطلق عليه "الإرهاب الدولي". فالكلام عن شبكات سرية لتنظيم "القاعدة" في أكثر من 40 دولة ليس صحيحا، لكن "البنتاغون" جعلته من الحقائق التي لا تناقش، وتحول بالتالي إلى وسيلة ضغط لتخويف الأنظمة الخائفة من شعوبها. كلام سكوكروفت عن تشيني وإدارته الشريرة والمخادعة ليس جديدا. فالكلام يزكي هواجس "المؤامرة" ويزيد من إشارات التنبيه لوجود شيء ما يحضر له وراء الأفق