يلفت النظر إصرار المرحوم رفيق الحريري على التمسك بالتفكير والعمل للمستقبل، فقد سمى التلفزيون الذي يرعاه بتلفزيون المستقبل، وسمى صحيفته بالاسم نفسه، حتى التيار السياسي الذي كونه من مجمل النسيج الاجتماعي اللبناني سماه المستقبل. شغف الرئيس الحريري ببناء المستقبل نتبينه قبل ذلك بكثير، فحتى المجلة التي صدرت في باريس في الوقت الذي ضاقت ساحة لبنان على المجلات الجادة ويرأس تحريرها المرحوم نبيل الخوري، وكان يرعاها الحريري كانت تسمى المستقبل. ولما تسلم الحريري قيادة الحكومة اللبنانية أراد أن يبني بيروت للمستقبل، ومن الثابت أن البناة الكبار الذين بنوا بيروت وحلموا ببيروت مدينة جديدة وجميلة هم أصحاب حقب أربع: الرومان، وفخر الدين، وبداية عهد الانتداب الفرنسي ورفيق الحريري.
لو دامت لغيرك
الحريري كان يتقبل الأفكار الجديدة، فقد طاف معه رجل من أهل المال والأعمال من الكويت في بداية بناء السراي الكبير الذي بني على تلة في وسط بيروت التجارية كمقر لمجلس الوزراء، فاقترح عليه الصديق الكويتي أن يكتب عبارة على باب السراي، حفظها الأخير عن ظهر قلب، وكانت العبارة قد كتبت منذ عقود طويلة على بوابة قصر السيف، قصر الحكم في الكويت، تقول: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"، وهي حكمة بليغة، فقرر الحريري أن يقبل النصيحة، وهذه العبارة مرسومة اليوم على مدخل ذلك الباب الكبير شاهدا لكل من يريد أن يتعظ يقرأها كل من يدخل أو يخرج، وقليل من يتعظ بها وكثيرون لا يعرفون حتى مصدرها. طبعا لم تدم للحريري، فقد وجد من المشقة والعنت أن يكمل مشوار البناء ويحول بيروت العاصمة الشرقية/الغربية إلى مكان مزدهر كما حلم به، ولكن القدر له أيضا أحكامه، فقد أصبح دم الحريري الذي أريق هدرا مع رفاقه في صبيحة الرابع عشر من فبراير/شباط الماضي، مجرى الحوادث التي قادت لاهتمام العالم، بكل ما يحدث بلبنان وببيروت وبمقتل الحريري. لا يذكر التاريخ أن العالم انشغل برجل كما انشغل برفيق، حتى حادث قتل ولى عهد النمسا الذي فجر حوادث الحرب العالمية الأولى، كان قشة قصمت ظهر العلاقات الدولية الذي كان ينوء بالكثير من الحوادث الكبيرة السابقة، كان ذريعة ولم يكن سببا. أما التحقيق في اغتيال الحريري فهو سبب لرسم تاريخ مختلف في الشرق الأوسط، شرقنا الذي كان كثيرا يلتفت إلى مكان آخر عندما يسمع بقتل رجل شجاع. كم من الرجال العرب قتلوا غدرا، واعتقد قاتلهم انه بقتلهم فقط يزيحهم كعقبة من الطريق، يبكي على جثتهم البعض، وسرعان ما ينسون، لأن الحي أبقى من الميت، كما يقال في أمثالنا. مقتل الحريري والتحقيق الدولي الذي تلاه يعني أن المقتول أطول نفسا من القاتل، ويعني أيضا كل من يهتم بالمستقبل في شرقنا العربي، وأن المستقبل يقرر من الآن أن لا قتل بعد اليوم للمخالفين السياسيين، الاحتكام إلى صناديق الاقتراع هو المكان الصحيح للفصل بين الأفكار السياسية لا فوهات البنادق أو شحنات المتفجرات. المصادفة ربطت في الوقت نفسه بين تقديم القاضي ديتليف ميليس لتقريره التاريخي وتقديم صدام حسين وزمرته إلى المحاكمة. لقد كان صدام حسين يستخدم السلاح نفسه: تصفية المخالفين بالقوة وتحويلهم من بشر إلى ما يقرب من الذباب، أرواحهم لا معنى لها ولا قيمة. أولئك الذين خططوا لاغتيال الحريري ونفذوا ما أرادوا كانوا يفكرون بالطريقة نفسها، بصرف النظر عن التفاصيل. بدلا من البناء الهدم، وهو سهل يسير، إلا أن من يعيش بالرصاص يموت به أيضا. قبل عام تقريبا وقف الحريري يودع اللبنانيين وقال كلمته المشهورة: "استودع الله لبنان". كانت له رؤية ثاقبة للمستقبل الذي ينتظره، فقد كان يحمل كل الألم من موقف من لا يريد أن يرى المستقبل. لم تكن للحريري طائفة تخصه يحتمي بها، كان لبنان كل طائفته، وتاريخه في العناية بالتعليم ينم عن ذلك، فقد علم أفرادا رجالا ونساء من كل الطيف الاجتماعي والعرقي اللبناني، قبل سنوات من وصوله إلى الحكم. كما لم تكن له مليشيات تخصه ولم يشترك في حرب الإخوة الأعداء التي مزقت لبنان قبل ذلك، بل كان داعية للسلام. وعندما قتل، قتل معه في اللحظة نفسها ممثلون تقريبا لكل الطوائف اللبنانية، كلهم كانوا في موكبه صبيحة الرابع عشر من فبراير الماضي. كلهم كانوا يحلمون بلبنان أفضل وأكثر سلاما ومحبة، مثلهم مثل معلمهم الكبير، ومثل معظم أفراد الشعب اللبناني. سيتناول المحللون تقرير ديتليف ميليس من زوايا عدة بين مؤيد وكاره، ولكن ما يعني الجمهور الأوسع أن تقرير ميليس والموقف الدولي يقول في نهاية المطاف "كفى"، بكلمات واضحة وصريحة كبيرة، مثلما يقول ان أداة القتل والتصفية، أو حتى قتل الشخصية المعنوي التي كان يخطط لها قبل الاغتيال الحقيقي، لم تعد من أوراق اليوم المقبولة في التعامل السياسي، ليس في لبنان فقط، بل في المنطقة العربية. ولم يعد الحديث عن "التخوين" أو حتى "التكفير" بيئة صالحة لتفريغ الحقد والتخلص من المعارضة السياسية، وأنها ليست الطريق السهل لتكميم الأفواه. ولعل السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان، كان محقا عندما قال ان تقرير ميليس هو بداية الطريق وليس نهايته. فهو بداية طريق يؤدي في نهاية المطاف إلى إحلال الحوار العقلاني المرتكز على حقوق الشعوب وحقها في الحرية والتعبير، في عالم يزداد تقاربا، وفي فضاء لم تعد فيه البندقية هي التي لها القول الفصل، القول الفصل للناس الأحرار المتساوين، للمواطنين لا الرعايا التابعين. هكذا يرى بعضنا تقرير ميليس بصرف النظر عن تفاصيله، يرون انه طريق المستقبل الذي حلم به الحريري ودفع الكثير من جهده وماله لمحاولة تحقيقه، ثم أخيرا دفع دمه الذي عبد في نهاية المطاف طريق المستقبل. خيانة الحريري بعد أن قرر التقرير الدولي الحقائق، هو أن يتوقف مؤيدوه عن الحلم بالمستقبل، وينكفئوا في ظل غمامة الأخذ بالثأر المجرد، الثأر الحقيقي للحريري هو في متابعة بناء وطن حر يمجده اللبنانيون في نشيدهم الوطني، وقد آن الأوان لتحويل كلمات النشيد إلى حقيقة، لأنها حقيقة ليست قاصرة على لبنان وإن بدت كذلك، انها حقيقة تعم المنطقة، قد يكون لبنان محط تجربة وجسرا للتوصيل، ويكون على أبنائه العبء الأكبر لبناء مستقبل أفضل. * كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1145 - الإثنين 24 أكتوبر 2005م الموافق 21 رمضان 1426هـ