يقولون عنه انه سبق عصره، لأنه جاء إلى مجتمع بدوي، يقوم على العصبيات والولاءات القبلية، وأراد أن يطبق فيه شرعة حقوق الإنسان. ويقولون إنه جاء إلى مجتمع يقوم على تمجيد شيخ القبيلة، الذي يشن الحرب بإشارة من اصبعه، ويوقف الحرب بإشارة من اصبعه الأخرى. ويقولون انه أراد أن يقيم المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة الكبار، وسعى من أجلها الأنبياء العظام... ولكن السؤال: أليست مبادؤه مازالت غريبة عن عالم القرن الحادي والعشرين؟ يقولون إن مريم بنت عمران حجة على كل النساء، وان يوسف "ع" حجة على كل الشباب، من حيث التزام الطهر والفضيلة والأخلاق، أفلا يكون علي حجة على كل حكام الدنيا عبر كل العصور؟ بقي في الظل ربع قرن قبل أن يتسلم شئون الأمة الإسلامية يدون القرآن الكريم، ويسجل أحاديث النبي "ص". وظل أمينا مع الخلفاء الراشدين، يمحضهم النصح، ويقدم اليهم الشورى... ألم يكن هو أقضاهم وأعلمهم وأتقاهم؟ الملحمة الكبرى، يوم جاءته الجماهير تبايعه، وهو يرسم بريشته البليغة أجواء ذلك اليوم التاريخي: "بسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها، وتداككتم علي تداك الابل الهيم يوم ورودها... حتى قطعت النعل وسقط الرداء، وبلغ السرور بالناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل إليها المريض وحسرت إليها الكعاب". لم تكن مجرد "بيعة"، وانما كان مهرجانا لحكم الشعب، فالكون على موعد ليشهد أعظم تجربة حكم انسانية يمكن أن يحياها البشر الخطاؤون، وليعيشوا أقرب نموذج ممكن للمدينة الفاضلة، التي تحدث عنها الفلاسفة والمفكرون لقرون. جاءه أخوه الفقير عقيل، وهو صاحب عيال كثر، يطلب منه معونة إضافية، وكان ضريرا، فأحمى له حديدة وقربها إليه، فلما أحس بحرارتها صرخ، فقال معلقا: "اتئن من حديدة أحماها صاحبها للعبه، ولا أئن من نار سجرها جبارها لغضبه؟". تحدث مرة عن بعض ملاحم المستقبل، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب! فضحك وقال: "ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم... علم علمه الله نبيه "ص" فعلمنيه". على أن أعظم الملاحم ما شهدته دولته من تطبيق العدل والمساواة بين الناس. في النهار يمشي في الأسواق ويرشد الناس نحو العدل، وفي الليل يتفقد شعبه، في أزقة الكوفة الضيقة، ويوزع الزاد على بيوت الفقراء تحت جنح الظلام. مرة سمع صوت بكاء أطفال، فطرق باب الدار، فاكتشف انهم أيتام قضى أبوهم في إحدى المعارك، وكانت المرأة تطبخ لهم ماء ليناموا على صوت حسيسه، أملا بوصول العشاء. فما كان منه إلا أن خرج مسرعا ليحضر لهم المؤونة، وأمر المرأة بتسليتهم حتى يجهز لهم بنفسه الطعام، وكان يقرب وجهه للتنور ليشعر بوهج النار ويقول مناجيا ربه: "اللهم اغفر لعلي". وفي الكوفة، تلك المدينة الجامحة المضطربة، كان يقف أمامه قوم أجلاف لم يجاوز الإيمان تراقيهم، لم تهذبهم الحضارة برقتها، فيكفروه ويردوا عليه أقواله على رؤوس الاشهاد، فكان يرد عليهم في أدب وسعة صدر: "سب بسب، أو عفو عن ذنب". ولم يرفع لهم السيف إلا بعد أن أعلنوا العصيان المسلح. عندما أرسل محمدا بن أبي بكر "رض" واليا إلى مصر، أوصاه بهذا الشعب العظيم: "أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر... فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك... حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك لهم". ولما ضرب في محراب مسجد الكوفة ودنت ساعة المغيب، أوصى أهله الملتفين حول سريره: "ألا تشركوا بالله شيئا، ومحمد فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم... أنا بالامس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم. إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي... وما كنت إلا كقارب ورد، وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار". عندما ورد خبر وفاته المدينة، سجد بعض شانئيه شكرا لله، واستشهد شعرا: وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر يوما بالأياب المسافر" هو الصراحة حتما... ولكن الأمة من بعده دخلت في طور الشقاء الأبدي. في مثل هذا اليوم، يوم الرحيل، وقف فيلسوف الشعراء العرب أبوالعلاء المعري، بعد ثلاثة قرون يستذكر ذلك اليوم الحزين، ويتخيل الكون المظلم الذي أطفأت الأطماع فيه سراج التجربة الثورية الأولى في العالم: وعلى الأفق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان شاهدا على أن هذا الرجل لم يسبق عصره فحسب، وانما سبق كل ال
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1145 - الإثنين 24 أكتوبر 2005م الموافق 21 رمضان 1426هـ