بعيدا عن التوصية أو القرار الذي سيتخذه مجلس الأمن بصدد تقرير ميليس المتعلق باغتيال رفيق الحريري يمكن القول من الآن أن الموضوع تدول وانتقل من صفة الادعاء الخاص إلى ما يسمى "الحق العام". وحين يصبح "الحق العام" مسألة دولية تبدأ الدول الكبرى في تحريكه وفق سياقات تتناسب في النهاية مع مصالحها وأهدافها واستراتيجيتها. اغتيال الحريري أصبح قضية دولية ولم يعد بالإمكان تعديل الحيثيات والمعطيات الواردة في التقرير من دون التوصل إلى نوع من الإجماع الدولي يسمح بإعادة إنتاج تسوية قانونية ترضي مختلف الأطراف المعنية بالأمر. تدويل الجريمة يصب في مصلحة المشروع الأميركي. والولايات المتحدة بدأت تستعد لتوظيف التقرير سياسيا وادراجه كذريعة قانونية في إطار خطة شاملة تبدأ من العراق "وربما إيران" وتنتهي في فلسطين ولبنان. وهذه الأهداف ليست جديدة، إذ سبق وأعلنت عنها واشنطن قبل التمديد للرئيس اللبناني اميل لحود في سبتمبر/ أيلول 2004 وبعده. المشروع إذا لم تخترعه إدارة البيت الأبيض منذ أكثر من سنة وانما أعادت تجديد عناصر القوة فيه مستفيدة من كل الثغرات التي أصابت السياسة الأمنية في لبنان. وهذه السياسة التي أصيبت بنوع من "عمى الألوان" أسهمت في توتير الأجواء وبناء قواعد انطلاق للمشروع الأميركي في المنطقة. هذا التحليل لم تعد له قيمة الآن. فالوقائع الميدانية تجاوزت كل التعليقات والشروح وتحولت اليوم إلى مجموعة أوراق مرفوعة إلى مجلس الأمن ويحتمل أن تستغلها واشنطن لصوغ قرار دولي يعطي مشروعها الخاص قوة دفع جديدة لتحريك تلك الاستراتيجية التقويضية التي تعطلت نسبيا محركاتها في العراق. المشروع الأميركي واضح المعالم ومحدد الأهداف منذ العام 2001 على الأقل. والمشروع في أساسه يعتمد على سياسة اختراع الازمات واختلاقها والتأسيس عليها لتبرير الهجمات التي تستهدف العالم الإسلامي دولة بعد دولة. وهذا الكلام الذي تردده واشنطن عن العدالة والإصلاح والديمقراطية والشفافية والانفتاح أكدت الحوادث نفاقه بعد تلك التجربة الكارثية التي قدمتها أميركا في بلاد الرافدين. فالشعوب العربية التي لا تصدق أنظمتها وتعاني منها أصبحت أيضا لا تصدق تلك الأكاذيب الأميركية بعد أن شاهدت ذاك الخراب الشامل "الفوضى البناءة" في العراق. فالشعوب العربية الآن مع أنظمتها السيئة بعد أن وجدت في "النموذج" العراقي أسوأ السيناريوهات. هذه المسألة تعرفها الولايات المتحدة. ولكن هل هي مستعدة أن تأخذ رأي الشعوب العربية في الاعتبار؟ الأمر مستبعد. والسبب أن المشروع الأميركي أصلا لم تطرحه إدارة البيت الأبيض لمصلحة سعادة ورخاء وأمن الشعوب العربية وانما تأسس وفق معطيات جغرافية/ سياسية "جيوبولتيك" لتأمين مصالح الولايات المتحدة في منطقة "الشرق الأوسط الكبير" وحفظ أمن "إسرائيل" ورعاية موقعها في إطار توازنات تقوم على معادلة أضعاف الجانب العربي وتحصين الدور الإسرائيلي تحت مظلة أميركية. المسألة تبدأ من هنا، ومنها يجب قراءة كل التفصيلات الصغيرة. فالمنطق الصغير يخضع لقانون المنطق الكبير. والقوي في النهاية بدأ يفرض شروطه في عالم سياسي تقوده كتلة ايديولوجية شريرة ومخادعة لا تأخذ في الاعتبار مصالح الشعوب وترى أوراسيا "أوروبا - آسيا" منطقة نفوذ دولية للولايات المتحدة لمواجهة الخطر الأصغر "الصين" في المستقبل. اغتيال الحريري موضوع تفصيلي في السياسة الأميركية المخادعة وتقرير ميليس مجرد جسر عبور من ضفة إلى أخرى. فالمسألة ليست في الحيثيات والمعطيات وانما في استخدامها وإعادة توظيفها في مشروع قرار دولي يشكل خطوة نحو مسار ليس بعيدا عن تداعيات "الفوضى البناءة" في العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1145 - الإثنين 24 أكتوبر 2005م الموافق 21 رمضان 1426هـ