الحديث عن دبي ليس حديثاَ عن آخر يعيش في المريخ، وإنّما حديثٌ عن الذات الخليجية بالضرورة، بعد أن تربّعت على العرش عشرين عاما، واهتزت صورة العروس المدلّلة تلك خلال نصف عام.
دبي مثّلت حتى وقت قريب، إنموذجا تنمويا يبعث أحيانا على التحفيز أو عمل المقارنات... أو الغيرة أحيانا. واهتزاز الإنموذج يطرح الكثير من الأسئلة حول المستقبل وخيارات التنمية، وهشاشة الاقتصادات الريعية التي تعتمد على استنزاف ثروة معدنية في طريقها حتما إلى النضوب، دون تصنيع حقيقي أو إعداد اجتماعي لتقلبات السوق الرأسمالي الذي لا يرحم.
لو زرت دبي قبل عام، لسمعت الأحاديث المتفائلة عن الأسهم والبورصة والشركات الاستثمارية وسوق العقار، أمّا اليوم فتأخذ الأحاديث منحى تشاؤميا، حيث خسر الكثيرون مدخراتهم مع احتراق سوق الأسهم بفعل الأزمة المالية العالمية. العقارات انخفضت بنسبة 40 في المئة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، ومعادلة «الإيجار» انقلبت رأسا على عقب، فصاحب العقار كان يتمنى قبل عام خروج المستأجر ليؤجّر على آخر بسعر أعلى، أما اليوم فيتمنّى بقاءه لأنه لن يجد مستأجرا جديدا بالسعر السابق، لفراغ الكثير من المساكن بعد خروج آلاف الأجانب.
الخروج ليس شرا كله، فقد انعكس على تسهيل حركة المرور التي كانت تمثل كابوسا يوميا، فأصبح المواطن لا يخفي ارتياحه الكبير من هذا التغيير الإيجابي (قرأت تقريرا مؤخرا يكشف تقلص عدد السكان في دبي بنسبة 17 في المئة). كما انعكس على تراجع أسعار الأراضي، ما يساعد الكثيرين، خصوصا من الشباب، على بدء مشروع بناء الوحدة السكنية الخاصة، بعد أن كانت عقدة مستعصية.
في الصيف الماضي، حين زرت الشارقة، هالني منظر الغابة الإسمنتية، وكان أن سألت مرافقي الإماراتي: من سيسكن كل هذه المباني؟ فأجاب: إنها تُحجز حتى قبل اكتمال البناء! والتطوّرات الأخيرة تعيد للسؤال وجاهته، فهذه الحركة العمرانية العملاقة إنّما كانت تقوم على المضاربات، دخل فيها مواطنون وعرب وأجانب من كل الجنسيات، بريطانيون وأستراليون وإيرانيون، كلهم دخل هذه المغامرة الاستثمارية الكبرى التي تشبه المقامرة حتى وقع السقف على رؤوس الجميع!
الخروج أيضا له انعكاس أبعد على هوية البلد، الذي يعاني فيه المواطن من حالةٍ من الغربة والضياع وسط بحرٍ متلاطمٍ من الجنسيات، (هناك 200 جنسية في الإمارات). ومن مجموع 4.5 ملايين عام 2007، هناك 900 ألف مواطن فقط. وعندما زرت دبي في أبريل العام الماضي، سمعت الكثير من الشكوى من «تمكّن» الأجانب في مختلف الأنشطة والأعمال، و»تنمّرهم» على المواطنين إلى درجة التحقير حتى يتركوا العمل. بل إن إحدى الأمهات شكت مما أسمته «عنصرية» يُعامل بها تلاميذ مدرسة خاصة يملكها وافدون عرب. ومن الطبيعي أن حركة الجلاء هذه ستلقى الكثير من الارتياح والترحيب.
ومن الإنصاف أن نقول إن التجربة ليست كلها سلبيات، فرغم الصورة القاتمة هذه الأيام، إلا أن هناك جوانب مضيئة، منها استقطاب مشاريع نوعية، كالمدينة الطبية والإعلامية ومدينة الإنترنت، وقنوات فضائية كثيرة. وربما تكون دبي من القلة الخليجية التي أحسنت استثمار الطفرة النفطية الأخيرة في تدعيم البنية التحتية من جسور وتوسعة شوارع وأنفاق. ومشروع القطار الذي بدأ قبل عامين لتخفيف المشكلة المرورية ونقل العمالة من وإلى دبي، بدأ تشغيله التجريبي هذه الأيام، ويفكّرون بمدّه إلى أبوظبي.
أخيرا... هذه مشاهداتٌ عابرةٌ لمراقبٍ صحافي محايد، عرف العروس المدلّلة قبل عشرين عاما، ورآها تفقد بعض مصاغها قبل نصف عام.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2428 - الأربعاء 29 أبريل 2009م الموافق 04 جمادى الأولى 1430هـ