قرار قاضي «المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري» الإفراج عن الضباط الأربعة جاء في توقيت غير مناسب لقوى «14 آذار» التي تستعد لخوض معركة حاسمة في الانتخابات النيابية. فالقرار «قنبلة صوتية» سيكون له تفاعلاته السيكولوجية على مزاج الناخب الذي سيتوجه إلى صناديق الاقتراع صباح 7 يونيو/ حزيران المقبل. وبغض النظر عن الدوافع الجنائية أو السياسية التي أملت اتخاذ قرار الإفراج فإن التداعيات ستكون واسعة في تموجاتها نظرا لارتباط الموضوع بحادث اغتيال ساهم في تعديل الموازين وخلط الأوراق المحلية والإقليمية في السنوات الأربع الماضية.
توقيت القرار في لحظة انتقالية أخذت ترسل إشارات دولية باتجاهات مختلفة يُعتبر نقطة مهمة قد تلعب دورها في ترجيح كفة قوى 8 آذار في الساحة الانتخابية. وفي حال صحّت توقعات شركات الاستطلاع بفوز بسيط لقوى 8 آذار فإن النتيجة قد تسهم في إعادة إنتاج سلطة يمكن أن تتكيف مع هيئة لبنان التي ارتسمت معالمها خلال الحقبة السورية. فالقوى التي تدير أنصار 8 آذار في الشارع والمؤسسات أشارت مرارا إلى علاقاتها الاستراتيجية واللوجستية مع دمشق ما يعني أن نفوذ المحور السوري - الإيراني سيتعزز في لبنان خلال المرحلة المقبلة بعيدا عن النتائج القضائية التي ستتوصل إليها المحكمة الدولية لاحقا.
التوقيت بالغ الأهمية في تأثيره على مجرى السياسة اللبنانية وقنواتها الأهلية حتى لو كان القرار مجرد خطوة إجرائية اضطرت المحكمة الدولية لاتخاذها. فالقرار سيحرج القضاء اللبناني وسيضعه في موقع الدفاع والتبرير وشرح الملابسات كذلك سيفتح الأبواب على تفسيرات وتأويلات ترافقت مع صراع داخلي بشأن الطرف الذي قرر ونفذ جريمة الاغتيال. وهذه النتائج السيكولوجية ستلعب دورها الوظيفي في توليد قراءات يمكن أن تصب في مصلحة الاتجاه الذي اشتغلت قوى 8 آذار على ترسيم صورته انطلاقا من التشكيك بنزاهة التحقيقات الدولية وصولا إلى توجيه الاتهام إلى أصابع صهيونية وشبكات إسرائيلية - أميركية تقف وراء التخطيط أو تنفيذ جريمة الاغتيال.
الإفراج عن الضباط الأربعة يطرح فعلا أسئلة حادة بشأن النتائج التي يمكن أن تتوصل إليها المحكمة الدولية في المستقبل. فهل توصل قاضي التحقيق إلى معلومات دامغة تشير إلى براءة الضباط وبالتالي فإن القرار يرسم سيناريو آخر يخالف التوجهات السابقة؟ الإجابة غير واضحة وتحتاج إلى وقت للتعرف على معالمها الجديدة. ولكن القرار حتى لو كان مؤقتا يرجح أن يلعب دوره الوظيفي في التأثير على مزاج الشارع في لحظة تستعد الأطراف المتخاصمة للتوجه نحو صناديق الاقتراع.
المحصلة المباشرة للقرار ستظهر نتائجها بعد فرز الأصوات وهي ستعطي فكرة عن صورة لبنان وهيئته السياسية في مرحلة تشهد المنطقة مجموعة تحولات في العلاقات الإقليمية والتحالفات الدولية. والانتخابات اللبنانية تشكل قاعدة معلومات للتعرف على التوجهات التي تريد واشنطن اعتمادها في الفترة المقبلة. وقاعدة المعلومات تحتاج إلى عينة موضوعية يمكن اعتمادها لترسيم خريطة طريق لبنانية توضح المسار الإقليمي العام.
حتى الآن لا تزال الكفة بين 8 و14 آذار متوازنة مع أرجحية بسيطة ومتقلبة لهذه الجهة أو تلك. ولكن صدور قرار الإفراج عن الضباط يمكن أن يعدل التوازن البسيط لمصلحة 8 آذار باعتبار أن الخطوة جاءت لتعزز وجهة نظر في التعامل مع المحكمة الدولية. فاللغة الانتصارية التي يرجح أن تتعامل بها قوى 8 آذار مع قرار قاضي المحكمة ستعطي مفعولها في ترجيح رميات ركنية في شباك فريق 14 آذار. وهذه المسألة السيكولوجية التي ستترك تأثيرها المعنوي على الجماهير المحتشدة في الملعب اللبناني لابد أن تكون هيئة المحكمة درستها وعالجتها وأخذتها في الاعتبار قبل أن تأخذ قرارها وتعطي فريق 8 آذار ضربة جزاء في الوقت الضائع. فهل للقرار أبعاده السياسية أم أنه مجرد خطوة إجرائية قانونية نزيهة في معانيها الإنسانية؟
سؤال سيبقى قيد التداول لأن الأجوبة عنه ستخضع للتأويل والتفسير من دون نتيجة قانونية. النتيجة الوحيدة السريعة والمباشرة عن ضربة الجزاء في الوقت الضائع ستظهر ردة فعلها في ميدان الانتخابات النيابية بعد 40 يوما من الآن. إذا جاءت النتيجة لمصلحة 8 آذار بسبب فشل 14 آذار في الرد والتعادل سيدخل لبنان في طور سياسي مخالف لتلك المرحلة التي ارتسمت معالمها الميدانية بعد خروج القوات السورية من بلاد الأرز. وهذا الطور الجديد سيكسر الكثير من الزوايا الحادة ويمكن أن يعيد تشكيل الساحة اللبنانية في هيئة صورية ستضع صيغة الكيان في دائرة المراجعة الدولية في إطار تحالفات إقليمية لم تتوضح معالمها حتى الآن.
أما إذا حافظت قوى 14 آذار على مواقعها ومواضعها وتحمل جمهورها الآثار السيكولوجية المتوقع ظهورها في تضاعيف وتموجات قرار المحكمة الدولية وتوجه إلى صناديق الاقتراع لتجديد ثقته بها ستدخل هيئة البلد في دائرة تجاذبات إقليمية قد تحتاج إلى معالجة ونقاهة وربما عمليات تجميل. فلبنان كما يبدو في ظروفه الراهنة يتأرجح بين طورين ويصعب توضيح صورته قبل فرز صناديق الاقتراع بدءا من ليل 7 يونيو.
الانتخابات لاشك ستكون حاسمة في ترجيح هوية لبنان وتكوين سلطته وموقع الدولة ودورها في صوغ علاقات بلاد الأرز الإقليمية. وسؤال الهوية يعتبر وديعة رمزية في الجانب المسيحي (الموارنة تحديدا) باعتبار أن الكيان السياسي اللبناني يعتبر المعقل الأخير في ماضي المشرق العربي. والخيار المسيحي في هذا الإطار يشكل خطوة حاسمة في تقرير التوجه الإقليمي لبلاد الأرز وقوة ترجيحية قد تُثبّت هويته المعهودة أم تعدلها باتجاه يتنافى مع ثقافة الكيان الذي تأسس رسميا في العام 1920.
قوة التصويت المسلمة مهمة ولكنها ليست كافية في تحديد الخيارات النهائية لهوية الكيان من دون المشاركة المسيحية. وإذا اختار الشريك المسيحي (الماروني تحديدا) قناعات جديدة ينتقل لبنان فعلا إلى طور آخر سيطرح لاحقا علامات تعجب واستفهام بشأن احتفاظه بهويته الخاصة. حتى الآن تبدو قوة الجنرال ميشال عون المتحالفة مع قوى 8 آذار غير متأثرة في ظل تنافر الأطراف الإقليمية والتجاذبات الأهلية. وفي حال حافظ الجنرال، الذي يرفع خطابات متطرفة في طائفيتها ومذهبيتها، على شعبيته الانتخابية في 7 يونيو يكون الشارع المسيحي (الماروني تحديدا) حسم خياره باتجاه موافقته على مراجعة هوية الكيان وموقعه ودوره في إطار شبكة العلاقات الإقليمية المتحولة في سياق فضاءات دولية تنتظر نتائج الانتخابات للبناء عليها.
قرار الإفراج عن الضباط لن يؤثر في شعبية حزب الله وحركة أمل أو حتى في معنويات تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي. فالمؤثرات في مناطق نفوذ القوى السياسية الرئيسية في الطوائف الشيعية والسنية والدرزية محدودة؛ لأن الخيارات محسومة ومستقرة إلى حدّ معين. القرار يرجح أن يؤثر في المناطق المسيحية ويحتمل أن يعطي جرعة معنوية لمصلحة الجنرال عون ضد خصومه المسيحيين في فريق 14 آذار. وهذا الاحتمال في حال حصل سيترك بصماته الميدانية على نتائج الانتخابات في الدوائر المسيحية.
الكرة الآن في الملعب المسيحي - الماروني وتحديدا في الأقضية غير المختلطة أو التي لا يلعب فيها الصوت المسلم دوره في ترجيح كفة على أخرى. فهناك دوائر بيروت الأولى والمتن الشمالي وكسروان وجبيل والبترون والكورة وزغرتا وبشرّي مضافا إليها زحلة وبعبدا وجزين تعتبر «مسيحية» في غالبيتها التصويتية وهي تمتلك مفتاح الخيار وتقرير هوية لبنان وربما مصير الكيان ومستقبله. هذه الدوائر مهمة لاختبار مزاج الشارع المسيحي في تعاملاته وتطلعاته ورؤيته. ونتائج التصويت ستعطي فكرة عن سؤال: هل يُغلّب الصوت الماروني الطائفة على الكيان أم يفضل الكيان على الطائفة؟ المزاج حتى الآن يميل إلى ترجيح «الطائفة أولا» وهذا يعني أن خطاب الجنرال سيفوز على شعار «لبنان أولا».
مسألة الأولوية مهمة في اختبار مزاج الشارع المسيحي الذي يملك القوة الترجيحية. ولا شك أن المزاج سيتعرض لمزيد من الضغط السيكولوجي بعد قرار قاضي المحكمة الدولية. فالقرار بالإفراج عن الضباط الأربعة جاء في توقيته لمصلحة الجنرال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2428 - الأربعاء 29 أبريل 2009م الموافق 04 جمادى الأولى 1430هـ