"قبل خمسة آلاف عام تقريبا، قدم رجال إلى مكان مهجور عند الساحل الشمالي لجزيرة البحرين، قريبا من قرية باربار الحالية، وقرروا أن تلك البقعة مقدسة. باشروا بناء معبد لآلهتهم، وما إن مضت بضعة قرون حتى كان معبدان آخران قد تم بناؤهما في المكان ذاته وعلى الأرض ذاتها حيث أقيم المعبد الأول. ومع مرور الوقت، أخذ الموقع في الاتساع، ففي بواكير الألف الثانية قبل الميلاد، وقف المعبد الثالث مهيبا وجليلا، متعاليا فوق أشجار النخيل المحيطة به ومجموعة المباني التي تناثرت حول أسواره الجيرية المنحنية على نحو جميل". ""معابد باربار الأثرية" - ص9". الفضول، أو عناصر التشويق، وحدهما، أو ربما رغبتي في زيادة معلوماتي عن حضارة دلمون والديانات الدلمونية، هي التي حرضتني على قراءة كتاب "معابد باربار الأثرية" الذي تمت ترجمته إلى العربية حديثا بلغة ساحرة للعقول من قبل الكاتبة البحرينية زينب أحمد، عن الكتاب الذي أصدرته وزارة الإعلام في العام 1983 في طبعته الانجليزية، بمناسبة إعادة اكتشاف معابد باربار التي تمتاز بفنها المعماري المتفرد وبالتشكيل المتقن لكتل الحجر، التي بنيت منها أبنية البئر المقدسة والمباني الأخرى المتصلة بالمعبد. وقد ارتبط ذلك المعبد روحيا بحضارة سومر القديمة، وملحمة جلجامش الشعرية. وجلجامش هوملك "الأوروك" وحاكم سومر الذي عاش في النصف الأول من الألفية الثالثة ، حوالي 2650 ق. م.، إذ تلاقحت حضارة بلاد الرافدين بحضارتنا القديمة المعروفة آنذاك بأرض دلمون، والتي كانت بالنسبة للسومريين أرض الخلود، حيث بدأ جلجامش رحلته إليها بعد موت صديقه الحبيب "إنكيدو". الكتاب يحتوي على مقدمة وخاتمة، وعلى نشأة المعابد ومجيء "إنكي" - إله المياه العذبة، ثم يتطرق إلى حضارة دلمون، المكتشفة من خلال آثار باربار، كما يتحدث عن موقع المعبد وعن مجيء جلجامش إلى أرض دلمون. إنه غني بالمعلومات عن بداية الاكتشافات الأثرية في مملكة البحرين منذ الخمسينات من القرن الماضي، التي كانت مختفية عن أعين الباحثين والمنقبين وعن أعيننا أيضا، ولكن بفضل أعضاء البعثة الدنماركية "مورتنسن، وأندرسون وبرين دو" وآخرين تم اكتشاف عالم قديم كان على أرضنا، من بينها معابد باربار، وغيرها من الآثار المعمارية الممعنة في القدم، المتبقية من العالم القديم. قبل تقديم عرض مكثف لهذا الكتاب المشوق: "معابد باربار الأثرية"، الذي كتبه باحثون أجانب عن البحرين من البعثة الدنماركية، ينبغي الإشارة بقوة هنا إلى المترجمة زينب أحمد، إذ لفت نظري سحر لغتها العربية ومفرداتها الغنية، وكأنها تروي "رائعة" عاشت حوادثها وأدق تفاصيلها "روحيا وحبا" قبل خمسة آلاف عام، تنم عن معرفة أكيدة فاحصة في علم "الميثولوجيا" تصفه بعناية لغوية لا تخرج إلا من محب لحبيبته... وتأملوا هذا الوصف لمعبد باربار: "إن قلب موقع المعبد الذي يقع في باربار، عبارة عن بئر مقدسة، وهي مغتسل للطهارة، مبنيا من قوالب جيرية رائعة فوق ينبوع ماء طبيعي. وهذه البئر - مثلها كمثل الضريح الرئيسي "قدس الأقداس" في وسط مجمع المعابد - كانت موضعا مقدسا لكونها تمثل بالفعل المدخل الذي يمكن من خلاله الوصول إلى الآلهة نفسها". ص .10 هذا الكتاب اختزل تاريخا مازالت آثاره بصمة لأقدام على الماء، لا تمحى. من هنا مروا، ومن هنا بدأوا، وعلى هذه الأرض المقدسة من المحتمل جدا أن يكون "إنكي" إله المياه العذبة في جوف الأرض، وهو ربا الـ "أبسو" - الهاوية - وهو الإله الذي يتم الاحتفاء بذكراه في معابد باربار. فقد كان إلها كريما، كثير الهبات للإنسان، خلافا لزملائه من الآلهة الآخرين في هيكل الآلهة السومرية. "أنكي" هو من قام "زيوسودرا" بتحذيره من الطوفان. لقد كان أب الآلهة الحامية للبحرين القديمة، المعروفة آنذاك بدلمون. أما عن نشأة المعابد في البحرين، فيشير الكتاب في صفحته رقم 11: "في الوقت الذي أقيم فيه المعبد الأول، كان أغلب العالم لايزال يرزح تحت البربرية في المراحل الأخيرة من ذلك العصر، إلا في سومر فيما يسمى اليوم بجنوب العراق، وفي مصر "أيضا"، إذ ازدهرت هناك حضارات متقدمة. ولكن هنا في البحرين وعبر الخليج، على الساحل العربي الشرقي، وفي الحقبة التاريخية ذاتها تم إنشاء مدن ومستوطنات أيضا. كما اشتركت هذه المدن والمستوطنات مع تلك الحضارات الراقية، في ذلك الوقت الباكر جدا، في اجتذاب أناس، للتفكر في العالم الذي يعيشون فيه. ومثل هذا التأمل أدى بعقولهم الخصبة والمبدعة إلى ابتداع آلهة وأرواح حارسة وأبطال، وكل الصفات الخارقة لتفسير الكون، ومكانة الإنسان فيه. لماذا دلمون أرض مقدسة؟! يجيب الباحثون على ذلك بأنها هي الأرض التي احتفت بها معابد باربار بالدرجة الأولى. إذ احتفل السومريون، منذ أقدم العصور، بقداسة دلمون، في قصائدهم، وفي شعائر احتفالاتهم الدينية، منادين بها موطنا أصليا للآلهة، وبأنها "البقعة الطاهرة" التي ظهر فيها لأول مرة ابتداع الزراعة والري، والكثير من الحرف البشرية الباقية. وكانت معروفة بأنها "أرض العبور" و"الأرض التي تشرق منها الشمس" و"أرض الحياة". ألم يقولوا: "في أرض دلمون الوادعة لا ينعق الغراب ... ولا يتكهن طير الشؤم بالفواجع..." إلى آخر القول: "ففي أسوار دلمون، ليس من سبب يستدعي نواح الكاهن..."! "كان "إنكي" إله المياه العذبة في جوف الأرض، الذي يديرها كما ينبغي، والذي سمح للإنسان بأن يحرث الأرض ويتمتع بخيراتها الوفيرة. كان بيت "إنكي" يقع في الـ "أبسو"، وهي قعر المياه الساكنة في جوف الأرض، والتي سمتها الثقافات التي أتت بعد ذلك "بالهاوية"، إذ سكن "إنكي" في قصر مبني من الفضة واللازورد". ص .21 يقول الباحثون: "أما الميزة الأكثر لفتا في المعبد الثاني، فقد كانت طبعا البئر المقدسة، أو ينبوع الماء، وربما قعر "إنكي" الحقيقي. وتأخذنا درجات سلم طويل وهو مدمر جزئيا الآن، من السطيحة "أو المصطبة" إلى البئر. والبئر، كما الكثير في معبد باربار، مبنية من كتل صخرية مجلوبة من جزيرة مجاورة للبحرين، وهي جدة، بينما تم بناء المعبد الأول، في المقابل، من أحجار البحرين المحلية". ص .35 "ومن المعبد الثاني تم استخراج رأس الثور النحاسي العظيم، وهو أروع تحفة مكتشفة في باربار، ومعه عثروا على تمثالين صغيرين أحدهما لكاهن عار أو متعبد، والآخر لطائر، فالطيور كثيرا ما يتم تصويرها في تصاميم الأختام الدلمونية. وكان أحدها، ويعرف بـ "طائر ملوخا" مرتبط بشكل خاطئ بـ "وادي السند"". انتهى الاقتباس. حين تقرأ هذا الكتاب تعيش في رحلة عميقة متعمقة في تاريخ البحرين القديم، مع أقدم ملحمة شعرية عن جلجامش في بحثه عن زهرة الحياة والخلود التام: هذا هو جلجامش يغطس في البحر "في الواقع يغطس في ينبوع ماء طبيعي في البحر، وهي ظاهرة خاصة بالبحر المحيط بالبحرين" ويعثر على الزهرة. وتخبرنا الملحمة كيف يربط البطل الأثقال حول رجله، تماما بطريقة غواصي اللؤلؤ، الذين كانوا ولفترة طويلة أحد المصادر الرئيسية لثروات البحرين... لا تقرأوا النهاية. هي محزنة تعكس حزن جلجامش حين خدع بجائزته في النهاية. تعرفون كيف؟! ففي طريق عودته إلى وطنه، لابسا ملابس فخمة كان قد أعطاها إياه "زيوسودرا"، مر ببركة ماء مغرية وباردة. خلع أثوابه الفخمة، وغطس في الماء، فأزعج أفعى كانت نائمة في قعر البركة ... تصعد الأفعى إلى السطح، وتشتم عبير "زهرة الخلود" فتبتلعها، وتستبدل في الحال جلدها... ثم يعود جلجامش حزينا إلى مدينته، مخفقا في طلبته، فيواسي نفسه بأنه يستطيع على الأقل السعي إلى حكم مدينته بالعدل
العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ
بسمة
نعمممممممممممممممممممممممممممم