كثيرون لا يذكرون من وزير الداخلية السورية غازي كنعان سوى دوره في لبنان، وأن زادوا عليه، فهم يذكرون بعضا من دوره في سورية بعد أن عاد إليها العام ،2002 وتولى على التوالي منصبين أمنيين كبيرين، أولهما رئيس شعبة الأمن السياسي في العام ،2002 ثم وزير الداخلية في الحكومة الثانية لمحمد ناجي عطري العام الماضي. وربط الاكثرية سيرة ودور غازي كنعان مع لبنان أمر مبرر. ليس فقط لأن الرجل امضى عشرين عاما من الخدمة في جهاز الأمن والاستطلاع التابع للقوات السورية هناك وهو الجهاز الذي كان يشرف على تلك القوات هناك، بل لانه في خلال تلك الفترة، كان رجل سورية القوي في لبنان، سواء من حيث رسم وصوغ السياسات السورية هناك، ومن حيث تنفيذ هذه السياسات مع كل ما يجب ويرافق الحالتين من علاقات وخطوات فيها حيثيات وتفاصيل رسمت عوامل نجاح السياسة السورية في لبنان، والتي كانت في تلك الفترة تشكل عنصرا مهما في السياسة السورية في بعدها الاقليمي والدولي. ولعله من البديهي القول، إنه لم يكن بامكان كنعان، لعب دوره اللبناني الذي بدأت أولى مراحله في العام ،1982 لو لم يكن للرجل تجارب جعلته مرشحا لدخول التجربة اللبنانية، والتي دخلت في العام 1987 مرحلتها الثانية والمميزة، وقد استمرت حتى عودته من لبنان في العام 2002 ليتسلم مجددا دوره السوري. وتبين سيرة كنعان، أن الرجل بعد أن تخرج في الكلية الحربية في العام ،1965 خدم لبعض الوقت في القطعات النظامية للجيش السوري، نقل بعدها للخدمة في جهاز الأمن العسكري، فصار رئيس جهاز الأمن العسكري في حمص، ثم تولى مسئولية أمن المنطقة الوسطى في هذا الجهاز، وهو موقع تزايدت أهميته في النصف الثاني من السبعينات بصورة واضحة مع النشاط المتزايد للجماعات الاسلامية المسلحة في الوسط السوري وخصوصا بين مدينتي حمص وحماه، وبهذا المعنى، فقد كان غازي كنعان أحد أركان الأمن السوري في تلك الفترة مسلحا بعاملين اساسيين ميزا رجال الأمن تلك الفترة وهما القوة والقسوة من جهة والدهاء من جهة اخرى، وكلاهما جرى استغلالهما من أجل الوصول في النهاية إلى هدف واحد، اساسه تطبيق الحلول الأمنية في الحياة السياسية السورية وفي التعامل مع مشكلاتها، وتتهم اوساط حقوقية سورية كنعان، إنه مسئول "بشكل مباشر عن فقدان الآلاف من المعتقلين، وهو الذي قام بتحويل مئات منهم على نحو مدبر إلى سجن تدمر قبيل المجزرة الرهيبة في يونيو / حزيران ،1980 ما يدل على أنه كان مشاركا في التخطيط المسبق والمتعمد لهذه المذبحة المروعة"، وهي جزء من اتهامات بـ "الفظائع التي ارتكبها في مطلع الثمانينات" في خلال وجوده على "رأس المخابرات العسكرية في حمص والمنطقة الوسطى". ويبدو أن "نجاحاته" الأمنية، والتي يقال إنه نجح سلميا في خلال جزء منها بنزع سلاح بعض اعضاء الجماعات المسلحة في حمص، دفعت به نحو دور أمني جديد يلعبه في لبنان، والذي كان تحول بعد الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 إلى ساحة رئيسية للسياسة السورية في البعدين الاقليمي والدولي، حيث صار لبنان ميدانا لصراع سورية مع الإسرائيليين ومع الفلسطينيين من أنصار عرفات ومع العراق وتركيا، كما صار في بعض الاوقات مكانا للصراع مع الولايات المتحدة وفرنسا وايطاليا، التي أرسلت قوات متعددة الجنسيات إلى هناك. ووسط تلك الاجواء من صراعات سورية الاقليمية والدولية، كانت سورية تتابع سياستها اللبنانية بالحراك بين مختلف التشكيلات السياسية والدينية والطائفية والمناطقية، وقد اختلط بها جميعا عقيد المخابرات غازي كنعان الذي تولى جهاز الأمن والاستطلاع التابع للقوات السورية منذ العام ،1987 واخذ دوره يتزايد ويصبح شديد الفعالية والتأثير، وخصوصا مع التوجه نحو معالجة لنتائج الحرب اللبنانية، والتي تمخضت عن اتفاق الطائف، وقد كان لغازي كنعان دور كبير في انجاز اساسياته، ولاسيما ترتيب المحيط اللبناني للاتفاق. وسط تلك البيئة المعقدة والمتناقضة عاش كنعان، واستطاع أن يثبت وجوده، وأن يدير سياسة فيها شقان أساسيان، أولهما تأمين الوجود السوري هناك في مواجهة أية قوة إقليمية أو دولية بحيث صار النفوذ السوري في لبنان غير خاضع للنقاش، والثاني تدخل سورية في كل كبيرة وصغيرة في الشئون اللبنانية، وفي الاوقات الذي لم يكن كنعان ورجاله حاضرين في تلك الشئون، كان اللبنانيون يحملون شئونهم إليه باعتباره "حاكم لبنان" أو المفوض السامي فيه. ويبدو ان دور كنعان في لبنان بما حققه من نجاح للسياسة السورية، كان بين عوامل دفعت نحو استعادته للاستعانة به في سورية بعد متغيرات وحراك السياسة الداخلية التي شهدتها البلاد بعد العام ،2000 وهكذا جرى تسليم كنعان منصب رئيس ادارة الأمن السياسي عند نقله من لبنان العام ،2002 ونظر كثيرون إلى هذا الاجراء بصفته جزءا من اعادة هيكلة واصلاح النظام الأمني والذي كانت صلاحياته توزعت وتداخلت - في حركة مد وجزر وتنافس - بين اجهزة كثيرة، كان جهاز الأمن السياسي اقلها صلة بمهمته واضعفها بدل ان يكون اقواها، وقد صدرت اشارات عدة لتعزيز دور جهاز الأمن السياسي وخصوصا في مواجهة الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، لكن الوصول إلى غاية كهذه، كان امرا صعبا وربما مستحيلا، وقد واصل كنعان محاولاته مع توليه منصب وزير الداخلية العام الماضي، فحقق تقدما شكليا في بعض الجوانب، فيما كان يتعزز الدور الأمني للمخابرات العسكرية، وهو ما أكدته التغييرات التي شهدتها المواقع الرئيسية في النظام الأمني السوري، والتي تمت قبل عدة اشهر في أعقاب المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم. وإذا كان من محصلة لهذه المرحلة من دور غازي كنعان في النظام الأمني السوري، فانها ذات نتائج محدودة ومتواضعة، والسبب في ذلك يكمن في أمرين أولهما، أن النظام الأمني السوري، لم يقبل فكرة الاصلاح واعادة الهيكلة حتى لو كانت من رؤية احد جنرالات النظام الأمني، والثاني عدم مقدرة كنعان على التوافق مع البناء الأمني القائم في وقت كان يعتبر نفسه من خلال تجربته اللبنانية، أكثر قدرة وكفاءة من الآخرين العاملين في جهاز الأمن
العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ