"ثمة أفراد قليلون جدا يعرفون احتمال أن يكون الفرس أقلية من بين سكان إيران الذين تتشكل أكثريتهم من الآذريين والأكراد والبلوش والتركمان وعرب خوزستان. .. هذه الأكثرية المرشحة في حال سقوط النظام الحالي لتلعب دورا مهما للغاية في مستقبل هذه البلاد!". النص الآنف الذكر هو جزء من الدعوة التي أرسلها حديثا معهد انتربرايس الأميركي الشهير الذي يعتبر بمثابة "غرفة أفكار" المحافظين الجدد، إلى عدد ممن يعتبرهم من ممثلي "الأقليات القومية" الإيرانية المقيمة في الغرب، المدعوين بنظره إلى وضع الخطط الكفيلة "لإيران ديمقراطية معبرة عن آمالهم وطموحاتهم بعد المصائب التي عانوا منها في عهد الجمهورية الإسلامية الحالية..."، كما ورد في نص الدعوة الموجهة إلى عدد من الرموز المغمورة المقيمة في أميركا وأوروبا، والتي بدأت تلقى رعاية إدارة الرئيس الأميركي وفريق المحافظين الجدد بشكل خاص في الآونة الأخيرة. المدعوون إلى هذه الندوة التي ستبدأ أعمالها في العاصمة الأميركية واشنطن في السادس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري سيستمعون - كما يفترض أيضا - إلى "إرشادات" المسئول عن ملف إيران مايكل لدين، أو بالأحرى ملف الإطاحة بالحكم الحالي في حلقة المحافظين الجدد المحيطة بالرئيس بوش، وذلك في إطار العنوان الرئيسي للندوة "إيران المجهولة إحالة أخرى للفيدرالية". وطبقا للتقارير التي نشرت قسما منها الصحافة الإيرانية المحلية والدولية حديثا فإن المناقشات ستتطرق إلى سيل "الاستعبار" والتعلم من الماضي الغريب، إذ فشلت الإدارة الأميركية في استنساخ تجربة تفكك الاتحاد السوفياتي السابق على إيران في صيف العام 1999م أثناء محاولاتها الدفع بالرئيس السابق محمد خاتمي ليصبح غورباتشوف إيران! بناء على ما تقدم يمكن الاستنتاج بأن المطلوب أميركيا أن يتم التعامل مع الحالة الإيرانية بمثابة حالة استمرارية للحالة العراقية، أي توظيف ما يجري حاليا في العراق على الساحة الإيرانية من دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة. بعبارة أخرى: إشعال نيران الصراع بين الأقوام والملل والطوائف الإيرانية في إطار تطبيق الخطط التي باتت معروفة عن فيدرالية الفوضى البناءة ومشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه سبق لبعض الجامعات الأميركية أن تناولت هذا الموضوع من خلال "فريق أبحاث" تم إرساله إلى إيران بصورة ملتوية وبشكل متقطع حتى لا يثير الشبهات، توصل على ما يبدو إلى أن إيران الواحدة هذه يمكن "تقسيمها" إلى 83 بين عرق وقوم وملة وطائفة ولغة ولهجة و... ظهرت بشكل خريطة انثروبولوجية أو لوحة للجغرافية الإنسانية الإيرانية. ما جرى حديثا من حوادث شغب في كردستان الإيرانية ومن ثم في خوزستان ذات الغالبية العربية وما رافقها من تفجيرات متوالية تشير جميعا إلى أن ثمة أصابع أميركية وبريطانية يمكن العثور على بصماتها بشكل واضح وبالعين المجردة من دون الحاجة إلى كثير من التحليل المخبري. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل صحيح فعلا أن الولايات المتحدة الأميركية قبلت بصعود "الشيعة" و"الأكراد" في العراق الجديد على حساب ما كان يسمى بـ "السنية السياسية" التي كانت حاكمة في العراق منذ عشرينات القرن الماضي، وبالتالي قدمت ذلك كـ "هدية مجانية" لإيران كما ظن البعض أو فسر أو قدر أو حلل من النخب العربية، أم أن ما قامت به كان بوعي كامل وليس سوى "فخ" مدسوس بشكل مدروس كالسم في العسل ليكون بمثابة "النموذج" الذي يفترض أن يعمم على دول المنطقة جميعا في إطار التحضيرات القائمة لإعادة رسم خرائط المنطقة؟! وحدهم المصابون بعمى الألوان من النخب العراقية أو العربية أو الإسلامية المهللة اليوم لكل ما يجري باسم العراق الجديد هم الذين لا يأخذون حذرهم من أخطار التقسيم والتمزيق والتفتت والتناحر والحروب الأهلية التي تحيط بكل دول المنطقة من دون استثناء، من جراء ما يعد لهم باسم الفيدرالية مرة، وباسم الديمقراطية والحريات مرات! أما الأميركيون من المحافظين الجدد الذين ينظرون إلينا اليوم كـ "القصعة" التي تتداعى عليها الأمم... كما هو وارد في الحديث النبوي الشريف، فإنهم وإن يظهروا اليوم للوهلة الأولى وكأنهم الفائزون في هذه المعركة بامتياز ومن دون منافس بسبب الاختلال الفاضح في موازين القوى لصالحهم، فإن الزمن لن يلعب لصالحهم على المدى المتوسط والبعيد أبدا. فإذا كان صحيحا أنهم قادرون على تحريك الساكن من المياه الراكدة في بحيرات "أقطارنا" و"أوطاننا" بما يدفع باتجاه "الفوضى المنظمة" التي يريدون، فإن الصحيح أيضا أن هذا الحراك العام إنما سيدفع بكل الفئات الفقيرة والمستضعفة أو المضطهدة والمقموعة إلى المطالبة بحقوقها المشروعة وحصصها المقطوعة عنها في العملية السياسية الجديدة، ولكن من "السيد" الجديد الذي يلعب اليوم بنار "الأقليات" والطوائف والأقوام والملل والنحل. ولما كان جلد هذه الأمم في غالبيتها هو الإسلام في إطاره الحضاري العريض وأن الأمم لا تغير جلودها بسهولة ولاسيما في حروب الاستقطاب والتحفز، فإنها سرعان ما ستكتشف أنه لا نجاة لها ولا خلاص إلا بالإسلام من جديد، وهذا ما سيدفعها عمليا إلى التوحد خلف قادة جدد لن يكونوا بالتأكيد من صنع سياسات "الفوضى البناءة" ولا "الديمقراطيات" المحمولة جوا، بل قيادات ستفرزها المرحلة الجديدة المليئة بتحديات الاستحواذ على موارد الطاقة وأخطار التحكم الإسرائيلي بها. وعندها ستغدو المصالح الأميركية ليست بالمصالح الصديقة البتة ويصبح المحافظون الجدد مصداقا للآية الشريفة: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" "الحشر: 2"، كما ستصبح بيوت حلفائهم في المنطقة أوهن من بيوت العنكبوت. من هنا، فإن ثمة من يعتقد بأن المحافظين الجدد في أميركا هم الآخرون أيضا مصابون بعمى ألوان يصعب الشفاء منه، إلا إذا أيقنوا بأن هذه المنطقة التي يصرون على تسميتها بـ "الشرق الأوسط" من دون التسميات الأخرى المعروفة لها، إنما هي تجمع لأقوام عريقة صاحبة حضارات جذورها راسخة في الأرض وإن بدت غير ذلك في الظاهر، لكنها عندما ترى أن المركب الذي يحملها يقترب من الغرق فإنها ستدعو بصوت واحد "بالصلاة على محمد وآل محمد" أيا كان عمق "الإنجازات" التي قامت بها إرساليات المحافظين الجدد أو القدامى! * مدير منتدى الحوار العربي الإيراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ